يوميات صحفي تائه “2”| وما أُعرِّفُ نفسي

وبناء على ما تقدم، أجد صعوبة بالغة في تعريف نفسي للناس وفي تعريف نفسي لي، ولا سبيل لذلك طالما أنك تعيش فكرة كونك صحفياً وفي نفس الوقت لا تملك الحماية ولا الفرصة الكافية لممارسة فعل الصحافة، وكلما قلت لأحد من الناس إنك صحفي، ينظر لي نظرة احتقار متهماً إياي بصفة لصيقة بالصحفيين "التطبيل"، لأسرع بالقول له بأني لا أحب صحافة مصر

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/22 الساعة 05:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/22 الساعة 05:51 بتوقيت غرينتش

من مشكلاتنا نحن العرب أننا نفقد القدرة على تعريف أنفسنا والأشياء، وهي مشكلة؛ لأن التعريف يصاحبه مدلول في ذات صاحبه ومدلول في ضمير المجتمع، ونحن كصحفيين نفقد تلك القدرة على التعبير عن أنفسنا وعلى تعريف أنفسنا بمعايير الصحافة الحرة، فالصحفي المصري -الذي لا غبار عليه- يستقر في ذاته وذات مَن يسمعه يقول إنه صحفي إنه ناقل أخبار، مردد لما يقال في الاجتماعات المغلقة والمفتوحة، أو لما يقال على ألسنة الناس، وذاك جزء يسير جداً من العمل الصحفي، ولعل الأمر يقف فقط عند نقل الأخبار وعدم إضافة الصحفي عليها من كيسه ليمجد مَن لا مجد لهم أو يقلل من شأن مَن لا حيلة لهم، وهذا كثير ومتكرر.

تخرجت هذا العام في إحدى كليات الإعلام، ولا أستطيع أن أقول إنني صحفي، لا أستطيع أن أسير حاملاً كاميرا ألتقط بها أشياء هي في حكم العادي جداً، الأمر لا علاقة له بغلاء أسعار الكاميرات ولا بالخبرة الصحفية بقدر ما له علاقة بأن البوح بهذه الصفة قد يسلمك للسجن بتهمة انتحال صفة صحفي، وهو لن يسلمك بالطبع لهذا السجن فقط حينما يظن ولاة الأمر المعظمون أنك شققت عصا الطاعة، فكم من ليال قضاها شباب الصحفيين في الحبس؛ لأنهم حملوا الكاميرا في الشوارع وجابوا يسألون الناس عن آرائهم، على كل؛ هذا لو لم تكن صحفياً مسجلاً بالنقابة، أما إن كنت مسجلاً -لا سمح الله- فلم نخرج عن دائرة الاضطهاد لفئة الصحفيين، أحداث اقتحامات النقابة تشهد والأحكام تؤكد.

وبناء على ما تقدم، أجد صعوبة بالغة في تعريف نفسي للناس وفي تعريف نفسي لي، ولا سبيل لذلك طالما أنك تعيش فكرة كونك صحفياً وفي نفس الوقت لا تملك الحماية ولا الفرصة الكافية لممارسة فعل الصحافة، وكلما قلت لأحد من الناس إنك صحفي، ينظر لي نظرة احتقار متهماً إياي بصفة لصيقة بالصحفيين "التطبيل"، لأسرع بالقول له بأني لا أحب صحافة مصر؛ لينظر إليَّ شذراً مرة أخرى باتهام معلّب بأني ضد البلد وإنجازاته، فهل الصحفيون يطبلون أم يسردون إنجازات، كن واضحاً قليلاً يا شعبنا! لأن الحيرة تأكلنا.

لن أنسى اللحظة التي أجرى الله فيها الصدق على لسان فرد أمن بقوله: "ادخل الجامعة بحشيش ولن تدخلها بالكاميرا أبداً"، وبالتالي نأتي إلى المشكلة الثانية في تعريف المهنة بأدواتها، فمعاداة الكاميرا و"الكاميرافوبيا" ستجعلك تعاني من تعريف نفسك كصحفي، سواء لدى رجل الشارع الذي يتكلم كالببغاء وعند التصوير يخرس، أو عند رجل الأمن الذي تمثل له الكامير حساسية تغطي على محاولة إفهامه أنك في مهمة عظيمة تخلد فيها الشوارع والناس والملامح بحزنها الكثير وسرورها المختلط به وخيبة آمالها المتكررة، أنت عميل لأنك تحاول إظهار تلك الصورة من الأساس، وبناء عليه لا تخبر أحداً بأنك صحفي لا بالقول ولا بحمل أدوات ترمز إلى الصحافة.

وربما صعوبة تعريف الصحفي لذاته وثيق الصلة بعدم قدرته على التعبير عن نفسه كما ينبغي له؛ لأنه مسلوب الجمَل والتفكير يمارس الرقابة على جُمَله ولا يقتل كلماته حبيباته لتحسين الأسلوب، بل ليناسب النص "الحالة السياسية" والإنجازات الغنية، والمفارقة بين صحفيي اليوم والأمس البعيد ظالمة، ففي زمان آخر، كان دخل الصحفي غير دخله اليوم يوم كانت الصحافة صناعة أفراد لا وظائف حكومية مضمونة، ويوم كان فكر الصحفي حينها غير فكره اليوم، ويوم كان أسلوب كتابته غير أسلوب كتابته اليوم، صحافة الأجداد التي فرضت على الناس مفاهيم بعينها دخيلة ما زلنا نستعملها إلى اليوم عربية فصيحة ككلمة "القطار" مثلاً، ليست نفسها الصحافة التي ورثها كتاب اليوم الذين لا يملكون لا من أدوات الكتابة ما يدعم النص ولا من علوم باللغة ما يقيم الجمل ويهذب الأسلوب ويدفع القارئ دفعاً إلى قراءة الموضوع دون ترك خيار آخر له.

رحم الله زماناً غيّرت فيه الصحافة أشكالاً من نظم الحكم "لبنان مثالاً"، بأزمنة استبدل فيها الصحفي قلمه بعود وطبلة، وصار ضجيج الطبلة يخرق أذن الناس عن سماع كلمة "صحفي" حتى إذا بلغت أسماعهم احتقروها واحتقروا حاملها، وحتى يأتي يوم لا يُحتقَر أو يُسجن فيه صاحب هذا اللقب سأسير ومالي حيلة أن أُعرِّفُ نفسي، وكلي حيرة في انتظار ذلك اليوم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد