"لا رواية يمكن أن تغير العالم" – جورج أورويل.
التصوف عالم قائم بذاته، له تاريخ طويل، والتصوف منهج، أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، كما عبّر عنه ابن عطاء الله السكندري في الحكم العطائية، والفلسفة الصوفية، بحيثياتها الروحانية واسترسالها بالحديث عن الكرامات والكشف عن الغيبيات والسعي خلف أولياء الله الصالحين، بيئة خصبة لكتابة رواية، وارتياد الخطاب الروائي عالم التصوف جاء لفتح باب جديد في طريقه، وهذا الباب يتكون من ضفتين اثنتين؛ الضفة الأولى التي يدخل من خلالها الحديث عن الآخر، الحديث عن علم من أعلام الصوفية، تسحبه من عالم التصوف "كواقع معاش" إلى عالم الرواية التخييلي، فيكون العنوان الذي يمكن أن نطلقه على مثل هذه الروايات هو "الرواية والتصوف"، كرواية "موت صغير" مثلاً، التي جعل الراوي من ابن عربي مادة أساسية لحكايته، ورواية "قواعد العشق الأربعون" عن جلال الدين الرومي، وكذلك رواية "بنت مولانا" للفرنسية مورل مفري، والرواية تناولت شخصية كيما سلطان، الفتاة التي أرسلها أبوها إلى الرومي للتعلُّم
الصوفية برزت كلحظة روحية وفلسفية وفكرية بامتياز في التراث العربي الإسلامي، حيث بدأ فعل الصوفية في الحداثة الشعرية، قبل أن يمتد ذلك الفعل في الحداثة الروائية، ويمثل اللجوء إلى التجربة الصوفية، كممارسة إبداعية أو فلسفة لرؤية الكون، مظهراً من مظاهر الحداثة الروائية الجديدة، تلجأ فيها إلى الاغتراف من الصوفي، مما يطبعها بطابع شعري ملحوظ وجليّ، كون الصوفية منبعاً ثرياً لتوليد "الشعري" فمعظم رجالات الصوفية هم شعراء، مارسوا الكتابة الشعرية واتخذوها وسيلة للتعبير عن فلسفاتهم ورؤاهم المتفردة للوجود والكون.
ولأن الرواية الجديدة تلتجئ إلى الشعري، وبعد نجاح رواية "قواعد العشق الأربعون" للتركية أليف شافاق صار ثمة هوس بالرواية الصوفية، أقصد ثمة هوس عربي لا يمكن لنا أن نتجاهله، فبرز ميل لدى عدد كبير من الكتاب نحو الصوفية فلماذا يلجأ الروائيون إلى استحضار شخصيات من التاريخ ليكتبوا عنها؟ وهل هذا الهوس التأملي حول كون الصوفية هي وسيلة لمحاربة التشدد والتطرف بالحديث عن الصوفية بوجهها الناعم المرغوب معرفته بما تتيحه من تأويلات ورؤى للأشياء تأخذ بُعداً أكثر رحابة من التفسير الحرفي للنص المقدس؟
الشخصية هي أهم محور في صناعة الرواية، وفي موت صغير يتوارى ابن عربي بثقله الفكري والفلسفي، فشخصية فكرية صوفية فلسفية عميقة يعرفها القاصي والداني بحجم ابن عربي يجب تقديمها بما يليق بها، والشخصية هنا جاءت بشكل ضعيف وباهت لا لون له ولا طعم ولا رائحة، فقد ركز الكاتب على الأحداث التي شكلت بيئة ابن عربي واحتضنته ولم يتعرض فعلياً لهذا الفكر، فجل الحديث عن ابن عربي الطفل والمراهق والزوج دون الحديث عن ابن عربي الشخصية الإشكالية في التاريخ بكل ما حملته معها من جدالات، وكأن الكاتب تهيب أن يطرق هذا الباب.. فترك العمل بلا روح، أو أنه أراد أن ينزع هالة الأسطورة عن ابن عربي، مجرد أحداث سطحية لا تقدم أي قيمة تثقيفية، فحين تقرأ رواية كتبت عن حياة شخصية تاريخية، يتبادر إلى الذهن بأنك ستلتقي بهذه الشخصية وكأنها وُلدت في عصرنا لتنقل لنا أحداثاً معاصرة، أم أن الكاتب أراد أن يتجنب حقول الألغام المزروعة في مسيرة ابن عربي التاريخية والفكرية، فالمغامرة معقدة والدرب شائك.
إن محاولة تجريد شخصية ابن عربي من قدسيتها، ومحاولة أنسنته، وهذا يبدو واضحاً في مشاهد فترة صباه، عندما كان يحب المغنى والسكر ويبررهما، وفق قواعد ومناهج لها علاقة بالتصوف أيضاً، وفي علاقة زواجه ومسيرته الوظيفية؛ هذا الوعي التجريدي مكرر أيضاً، فربما يكون اقترب منه كزانتزاكس في روايته "الإغواء الأخير للسيد المسيح"، لست متصوفاً، ولكنني بعدما أنهيت قراءة الرواية لم أجد ابن عربي ولم تضف لي الرواية أي شيء حتى أدنى قدر من فكره الصوفي والفكري، إن مفهوم الكتابة الروائية والأدبية لدى كثير من الروائيين العرب ما زال مبهماً وغير مفهوم.
تقودنا الأحداث في "موت صغير" عبر مسارين: الأول يحكي تاريخ انتقال مخطوطة تقص سيرة ابن عربي منذ عام 610 هجرية وحتى اكتشافها عام 1433 هجرية، وبحسب الكاتب، فإن سيرة المخطوط عمل متخيل تماماً ولا وجود له، والثاني سيرة ابن عربي من المهد إلى اللحد، مستعرضاً الصعاب التي لاقاها منذ ولادته في الأندلس وحتى وصوله إلى مكة.
يستعرض الكاتب كيف استقر ابن عربي في مكة المكرمة وأنجز مؤلفه الأهم "الفتوحات المكية"، وظن أنه سيهدأ وتقر عينه بما أنجز، لكنه يلتقي نظام ابنة شيخه زاهر الأصفهاني فيغرم بها ويكتب ديوانه "ترجمان الأشواق"، غير أنه يُفاجأ برفضها؛ ليكتشف أنها كانت وتداً من أوتاد الأرض الأربعة، طبقاً للفهم الصوفي، وبالتالي فدورها تثبيت الإيمان والدين فى قلوب مَن يهديهم الله، وفق المتصوفة، فالمتصوفة يعتقدون بوجود القطب الأكبر أو الغوث لإدارة شؤون الأرض وتحته أربعة أوتاد يساعدونه، ما جعله على يقين باستحالة ارتباطهما؛ لتنتهي حياة "الشيخ الأكبر" عجوزاً متهالكاً يعمل أجيراً في بستان باحثاً عن قوت يومه.
ربما سيصيب القارئَ بعض من الملل؛ ويشعر أن الرواية على مدار صفحاتها، التي اقتربت من الـ600 صفحة، طويلة للغاية، ويمكن اختزالها إلى 200 صفحة وتستمر معك الرواية، أي أن هناك ما يقارب الـ400 صفحة لا لزوم لها سوى وجاهة الحجم أو ما يسمى بـ"البدانة الروائية"، ويمكن حذفها بسهولة دون أن يتأثر النص ومسار الأحداث، فالكثير من الأحداث الثانوية الزائدة عن حاجة الرواية كما في الأجزاء المتعلقة بكشف مصير الخليفة الموحدي "يعقوب بن يوسف" الذي اختفى فجأة ولم يعرف مصيره وعدّ ميتاً وخلفه في الحكم ابنه محمد.
وفي فصول ذلك السفر، وبعد أن أبلغته "نظام ابنة زاهر الأصفهاني" بأنها وتده الثالث وعليه أن يسافر إلى "ملطية"؛ لأن فيها وتده الرابع والأخير؛ أخذ السرد يتوالد خلال فصول السفر، فيحلم ابن عربي بصوت رجل مسن يصلي، وتعانده بغلته فيتركها تقوده، لإيمانه بأن "الإشارات لا تحدث عبثاً والكشوفات لا تنزل سدى" (ص 452).
فما هو الكشف المهم في مصير الخليفة وتحول السفر نحو البقاع؟! وماذا سيضر الرواية لو ترك مصيره مفتوحاً على كل الاحتمالات التي ورد ذكرها في بداية السفر الخامس؟! وعلى النقيض من تلك البدانة، نجد "نحافة" – إن جاز التعبير – وعدم اهتمام بالحرث العميق في البعد الإنساني لمعاناة بدر في جزء الرحلة المفقود سرداً من البقاع وحتى ملطية بقدم أكلتها الغرغرينا.
قفز عن هذا الجزء من الرحلة واكتفى فقط بذكر الفترة الزمنية "فلم نكد نصل إلى ملطية بعد شهر وأسبوع إلا وقد استحالت قدمه اليمنى قطعة سوداء هجرها الدم وصار يجرها وراءه جراً" رغم أنه يعلم مسبقاً خطورة حالته "قرصته قرب كعبه فلم يشعر بما فعلت، أوجست من ذلك خيفة وحدست ما وددت أنه لم يصدق" (ص468).
البوكر العربية التي باتت محط أنظار الأدباء والكتّاب من مختلف بلدان العالم العربي تريد التسلل للرأي العام العربي من خلال أنماط كتابة مخالفة للثوابت الإيمانية والأخلاقية وعلوان "برأيي" لم يوفق في سرده السيرة الذاتية لابن عربي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.