باريس التي لا نعرفها (2)

باريس مدينة تعيش تفاوتاً طبقياً رهيباً، ولا يمكن للفقراء فيها أن يتمتعوا بحياة مريحة مهما حاولوا، هي مكان لا يسمح لك بالتطور بل يتيح لك الفرصة فقط لتكون جزءاً من آلة عمل باريس الضخمة، وهذا إن كنت محظوظاً، الناس هنا يتدارسون النهايات، البدايات لا تعنيهم أو ربما تجاوزوها ولم يشعروا، جميعهم يحملون ذات الخيبة على اختلاف العيون، الضحكات مسروقة في هذه المدينة

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/20 الساعة 06:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/20 الساعة 06:13 بتوقيت غرينتش

– في هذه الأيام تمر سنة على انتقالي إلى العيش في العاصمة الفرنسية باريس، ولم أصحُ بعد من الصدمة التي تلقيتها بعد التعرف عن كثب على عاصمة "الموضة" والجمال والثقافة و"النور"، بعد وصولي إلى هنا بشهر أو أكثر عرفت أنني مصاب بحالة نفسية تسمى "متلازمة باريس" (Syndrome de Paris بالفرنسية)، ولقد قاومت هذه الإصابة بكتابة مقال بعنوان "باريس التي لا نعرفها"
– المقال الأول ترك أثر الصدمة لدى الكثير من القراء، لكنه أفرغ لديَّ شحنات سلبية كبيرة، وأستطيع أن أقول إنني تابعت الحياة في باريس بسلام إلى حد ما بسببه ولسبب آخر شخصي، أكتب الآن وأنا أتصوّر رجلاً يتبوّل على الحائط تحت نافذتي (مشهد اعتيادي في العاصمة الفرنسية)، أو أن أحداً أحب أن يرفّه عن كلبه فتركه يضع فضلاته على باب منزلي، أو بأقل الأحوال أن هناك اجتماعاً لجرذان الحي عند ناصية الشارع.

– باريس مدينة مزدحمة ونشيطة، متسخة، ولا تحتوي على الكثير من الألوان، هنا تغلب الألوان الغامقة على معظم الأماكن، عواميد الإنارة لونها بنيّ غامق جداً، الأرصفة رمادية وممدودة بالأسفلت حيث لا يتوافر الرصف بالحجر إلا بشوارع معينة، أغلب واجهات المحلات تعتمد تدرّجات الألوان الغامقة، أغلب سيارات المدينة بين الأسود والرمادي والفضيّ، حتى أسقف البنايات الباريسية يتم تلبيسها بقرميد رمادي، لا بقرميد أحمر كما ينتشر في أوروبا.

– باريس مدينة تعيش تفاوتاً طبقياً رهيباً، ولا يمكن للفقراء فيها أن يتمتعوا بحياة مريحة مهما حاولوا، هي مكان لا يسمح لك بالتطور بل يتيح لك الفرصة فقط لتكون جزءاً من آلة عمل باريس الضخمة، وهذا إن كنت محظوظاً، الناس هنا يتدارسون النهايات، البدايات لا تعنيهم أو ربما تجاوزوها ولم يشعروا، جميعهم يحملون ذات الخيبة على اختلاف العيون، الضحكات مسروقة في هذه المدينة، كما كل اللحظات المميزة، حتى القُبلات على أبواب القطارات السريعة، والتي ينظر إليها الناس من باب الرومانسية في مدينة الحب، دون الاكتراث إلى أن أحد الطرفين سينفصل على الآخر ليركب القطار متجهاً إلى مكان ما، ربما لن يلتقيا قبل عدة أيام أخرى، فهو مثلاً يعمل في باريس لكنه يسكن مدينة ثانية؛ لأن راتبه لا يسمح له بالاستئجار.

– باريس مدينة لا تحب سكانها كما يحبونها هم، هي كالسيدة الجميلة التي تتعالى على رجلٍ عاشقٍ والهٍ، حتى يفكر بالزواج عليها، إيجار الغرفة في باريس بمساحة 20 متراً فقط يصل إلى 700 يورو وسطياً أما إيجار الشقة فيبدأ من الـ1000، ومتطلبات الإيجار معقدة تتألف من:

1 – عقد عمل براتب شهري يصل إلى ضعفي إيجار المنزل.
2 – إيجار شهر إضافي كضمان.
3 – عمولة المكتب العقاري.
4 – كفيل يحمل الجنسية الفرنسية إذا كنت أجنبياً.

وعندما تمتلك كل ذلك قد يوافق صاحب البيت على تأجيركَ أو يرفض.

– باريس تضعك تحت ضغطها دون أن تقصد هي، ودون أن تشعر أنت، هنا أنت مطالب بأن تكون باريسياً والباريسي هو شخص عابس أغلب الأوقات، يمشي مسرعاً في الشوارع ويركض تقريباً في محطات المترو، يرتدي ملابس غالباً بألوان غامقة من تدرجات الأسود والبني، يضحك فقط أيام الجمعة والسبت ومساء الأربعاء، الفرنسيون معتادون ربما على هذه المدينة، ولكن معظم الوافدين للعيش فيها تصيبهم متلازمة باريس بشكل أو بآخر، ومنهم مَن تصبح لديهم متلازمة باريس مزمنة.

– لا يعدل مزاجك في هذه المدينة إلا السياح، وأنت تلمح النظرات الحالمة في أعينهم وهم يلتقطون الصور أمام المعالم الخالدة في المدينة، يشكلون القصص وسوف يحملونها إلى بلادهم، ربما سوف يحكون لأصدقائهم عنك (كان هناك شاب… إلخ إلخ)، وربما تظهر في طرف الصورة وتبقى في ذاكرتهم وذاكرة أولادهم، أنت تعيش في مدينة يحلم نصف سكان العالم بزيارتها وربما يحلم نصفهم بالعيش فيها، سكان من كل الجنسيات، مطاعم من كل مطابخ العالم، ثقافات لا تُعَدّ ولا تحصى، مشاهير وأشخاص على هامش الجغرافيا، مجانين ومثقفون، مشردون وأثرياء، كفار ومؤمنون، أشرار وطيبون.
ابتسم يا عزيزي.. فأنت في باريس.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد