الاستهلاك العبثي.. كرة القدم في بطن الاقتصاد

تميزت هذه الرياضة عن باقي الرياضات الأخرى بقتاليتها وحماستها وشعبيتها قطيعة النظير، فتم تحويلها إلى صورة جديدة للحرب؛ حيث إن اللاعبين تحولوا إلى جنود يمثلون المنطقة التي يلعبون لصالحها ضد منطقة أخرى، والفوز أصبح صورة مصغرة للانتصار في الحرب

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/19 الساعة 08:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/19 الساعة 08:00 بتوقيت غرينتش

كرة القدم هي رياضة كما يعلم الجميع، لكنها انحرفت عن مسارها الطبيعي، بسبب إدخالها بتعسف في المجال الاقتصادي، فأصبحت تأخذ طابعاً بعيداً عن كونها مجرد رياضة، وهذا ما سنُحاول توضيحه في هذا المقال البسيط.

إن كرة القدم تقوم على أمرين: الممارسة، والمشاهدة.

بالنسبة للممارسة، فهي عبارة عن لعب بالأرجل، وهو فعل يقوم به اللاعبون داخل الملعب، بمعنى أنها تحتاج إلى شرطين: اللاعبين، والملعب.

فاللاعبون في المرحلة الأولى كانوا يلعبون من أجل المتعة، وكان الملعب عبارة عن مساحة في أي مكان صالح للعب.

أيضا المشاهدة، تحتاج إلى أمرين: المشاهدين والمكان الذي تتم من خلاله المشاهدة.

في المرحلة الأولى كان المشاهدون عبارة عن أشخاص يسعون للمتعة هم أيضاً عن طريق المشاهدة، وكان مكان المشاهدة بجانب الملعب، على الهامش حيث تنتهي حدود الملعب؛ يعني أن المشاهدة كانت مباشرة.

تميزت هذه الرياضة عن باقي الرياضات الأخرى بقتاليتها وحماستها وشعبيتها قطيعة النظير، فتم تحويلها إلى صورة جديدة للحرب؛ حيث إن اللاعبين تحولوا إلى جنود يمثلون المنطقة التي يلعبون لصالحها ضد منطقة أخرى، والفوز أصبح صورة مصغرة للانتصار في الحرب، وهذا ما استغلته الدول الأوروبية لتحول صراعاتها من الميادين العسكرية إلى الملعب، فحولت بذلك النزعة القومية والوطنية وما تحمله من طاقة تدميرية ضد الخصم، من الميادين العسكرية إلى الملعب، وتحولت بالموازاة، الغنائم الحربية، إلى كأس اللقب والميداليات.

بالفعل، استطاعت الدول الأوروبية أن تحوّل التوسع العسكري إلى توسع رياضي، فما كانت تحققه عن طريق الاستعمار بخسائر بشرية ومادية، أصبحت تحققه بكرة القدم (إضافة إلى طرق أخرى اقتصادية)، بخسائر مادية قليلة.

فالدولة التي تفوز باللقب الكروي، تحصل على أموال طائلة، وإن خسرت، فالمال الذي تخسره قليل بالنسبة لما كانت ستربحه.

وهكذا دخلت الرياضة إلى عالم الاقتصاد، فهدف الحروب في الأخير هو الربح الاقتصادي، وهذا ما حققته كرة القدم فعلاً.

بعد أن أُهضمت كرة القدم في بطن الاقتصاد، سيطرأ تغير على أساسياتها؛ حيث ستتحول عناصرها من حالة إلى أخرى، كما سينضاف عنصر جديد إلى عناصرها القديمة، وهذا العنصر الجديد أقصد به الإعلام، الذي سيلعب دوراً هاماً في هذا المجال.

لقد تحول اللاعب من لاعب يسعى للمتعة إلى لاعب يسعى للثروة، ومن لاعب حر، إلى لاعب تتحكم فيه الشركات.

واللاعبون لم يعودوا مجرد لاعبين تربطهم المنطقة، بل أصبحوا لاعبين يربطهم النادي، فناب هذا الأخير عن المنطقة في اختيار اللاعبين. فأصبحت تجد لاعباً من بلد ولاعباً من بلد آخر، لكن يربطهم شعار النادي.

وأصبحوا يلعبون للنادي؛ لأنه يدفع لهم، ونفس الأمر ينطبق مع المنتخب، فهو عبارة عن نادٍ كبير، يجمع اللاعبين من مناطق مُختلفة من أرض الوطن، فلا يكون هدفهم الوطنية وإنما هدفهم المال.

تحوّل الملعب من مجرد مساحة في أي مكان صالح للعب إلى مكان في ملك خاص، لا يدخله سوى من يدفع، ومن هو مُخول له ليدخل إليه، فالملعب أصبح مساحة صالحة للعب من أجل الربح. إنه مجال اقتصادي صالح للعب.

أما المشاهدة، فانقسمت بين عنصرين؛ عنصر يشاهد كمشجع، وعنصر يشاهد كمقامر، كما أن مكان المشاهدة انقسم إلى طريقين: مشاهدة مباشرة من الملعب، ومشاهدة خارج الملعب (وهنا يظهر دور الإعلام في إيصال المباراة إلى المشاهد خارج الملعب عن طريق التلفاز، فأصبح هذا الزبون يدفع للتلفاز عن طريق الضريبة، أو عن طريق صاحب المقهى).

فالمشاهد، سواء الأول أو الثاني، يدفعن الثمن من أجل المشاهدة، فتحول المشاهد من مشاهد حر إلى زبون.

هكذا تحولت كرة القدم من رياضة حرة إلى فرع من الاقتصاد. وجميع العناصر التي تقوم على أساسها تربطها شبكة اقتصادية معقدة، فاللاعب يلعب ليربح النادي، والنادي يدفع الضريبة للدولة والشركات التي تموله، وتدفع أيضاً للاعبين، من دون أن يفقد ربحه (النادي)، يعني أنهم جميعاً مستفيدون، لكن من أين تأتي الأموال التي يربحها هؤلاء؟

طبعاً، تأتي من الزبون، أي المشاهد، حيث يدفع ثمن التذكرة التي يدخل بفضلها إلى الملعب، ليجلس في مكان معين على المدرجات، أو يدفع الضريبة للقناة التي يشاهد من خلالها المباراة، والتي بدورها تدفع ضرائب لإدارة الملعب الذي صورت من خلاله المباراة، وهذه الإدارة تدفع للشركات التي قامت ببناء الملعب، وتدفع للنادي.

كما أن الشركات التي تستغل اللاعبين في الإشهارات تدفع المال للنادي، فالإشهارات في آخر المطاف هدفها المستهلك اي المشاهد، وهكذا تربط الشبكة الاقتصادية بين هذه العناصر جميعها، رغم أن تحليلي لها بسيط.

إذن، كرة القدم أصبحت ساحة للتجارة ولم تعد رياضة، والمشاهدون أصبحوا مستهلكين لشيء لا يستفيدون منه أي شيء، يعني استهلاكاً بدون فائدة، وهذا هو العبث بعينه.

يعني أن المستهلك تحول من شخص يشتري المادة فقط إلى شخص يشتري المادة واللامادة، يعني يشتري اللاشيء. يدفع، ويتوهم أنه يستهلك، وهذا هو الغباء الناتج عن ممارسات الرأسمالية.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد