يدعي آباؤنا وأجدادنا دوماً أن زمنهم أفضل من زمننا، على بساطته، وندرة الإمكانيات فيه، إذا يعتقد آباؤنا أن البساطة والسذاجة اللتين كانوا يعيشون عليهما، كانتا سبباً في سعادتهم الحياتية أكثر منا، كما ينظرون دائماً إلى تأثير هذا التطور وانعكاسه على الأجيال، باشمئزاز كبير، فقد فرقت التكنولوجيا في نظرهم، بين الناس، وألغت تلك المشاعر والأحاسيس التي كانوا هم يتبادلونها قديماً، فقد أصبح الجميع اليوم لا يأبه بما يصير حوله على الواقع، بل جل تركيزه منصب على شاشة الجهاز الذي بين يديه.. لكن هل نتحمل نحن المسؤولية لوحدنا أم هم شركاء فيها؟
الأكيد أنني لست من الجيل الذي سيتحسر على ماضيه إذا رأى حاضر أولاده أو أحفاده، فقد أدركت أن الرداءة التي نعيشها ما هي إلا تراكمات، ولن تتوقف مع نهاية جيلنا بل ستستمر للأجيال اللاحقة تاركة وراءها تشوهات فكرية على مستوى وعينا، وستلقي بظلالها على مستقبل العديد من الأجيال المتلاحقة، خاصة في تلك الميادين الحساسة والتي لها علاقة بمختلف المجالات، كالتعليم مثلاً الذي يعتبر الممول الأول لجميع مجالات الحياة بالطاقات والعقول الشابة والقادرة على العطاء، لا يمكننا القول بأن تعليمنا كشباب عشريني اليوم كان سيئاً لحد بعيد، فنحن نعتبر من المحظوظين الذين أدركوا وتتلمذوا على يد معلمين، حتى وإن كان مستواهم في بعض الأحيان متدهوراً، فقد كانت إنسانيتهم كبيرة، وكان تعاملهم معنا بقدر كبير من الحب والاحترام.
أدركت بعد سنوات من الدراسة أن المعضلة الحقيقية لم تكن في الأستاذ فحسب، أو في التلاميذ والطلبة، بل المشكلة أوسع وأخطر، خاصة حين تدرك أن المشكلة الأساسية ليست لا في الطبيب ولا في المريض، بل في الدواء المنتهي الصلاحية، الذي فقد قدرته على النفع منذ سنين عديدة، فمناهجنا التعليمية المتدنية التي كنا نشكو قبل سنوات من عدم تجديدها، ومن الملل والنفور الذي تزرعه في عقول أبنائنا، أصبحت اليوم تتجدد سنواياً، دون فائدة تذكر، فقد أصبحت مناهجنا ومقرراتنا نسخاً طِبق الأصل عن المقررات الأوروبية، التي لا تعكس لا تاريخنا ولا واقعنا ولا مستقبلنا، مقررات مستوردة، بعيدة عن هويتنا وذاتنا، بعد المشرق عن المغرب، ولا حصيلة تذكر سوى تراجع مرتبة تعليمنا في العالم الذي تنخره الرداءة عاماً بعد عام، كيف لا وحتى تاريخنا أصبح مبتوراً ومحرفاً في مقرراتنا؟! كيف لا وهيبة المعلم والأستاذ أصبحت مداساً تحت الأقدام؟! بين مَن يدخن داخل القسم ومَن تمضي ساعات دوامها أمام مرآتها تعدل مكياجها، من أين لطفل وُلد في عصر الرقميات، وفي عصر اندثار العاطفة والإحساس، أن يدرك قيمة المعلم؟ ألم يحن الوقت لندرك أن الأخلاق لا بد أن تصبح مادة يتناولها أولادنا منذ السنوات الدراسية؟ أليس حرياً بنا أن ننشئ نوادي ثقافية ومسارح في كل مؤسساتنا التعليمية، تعلم أبناءنا الإبداع الحقيقي بدل المبتذل الذي يتناولونه من التلفاز والنت يومياً؟! ألم يحِن الوقت أن نتخلى عن فكرة التغيير من القمة ونبدأ التغيير من القاع؟ بإصلاح النشء القادر على تأمين مستقبل أوطاننا، بعيداً عن الطائفية والخلافات العِرقية والدينية المقيتة، ونزرع فيهم أن التصفيق للمتفوق واجب، ومواساة المتعثر أوجب.
علينا أن نعلمهم أن الاختلاف لا يصنع حروباً إلا عند الأقوام المتخلفة، وأن السعادة التي ترجوها الناس ليس بالركض وراء تلك المادة اللعينة، بقدر ما هي بحث عن بذرة الحب في نفوسنا ورعايتها، والاستعانة بها في حياتنا لرسم ملامح جديدة وبريئة على هذا العالم الضبابي، مجنبين إياهم الخوض في مسائل لا طائل منها سوى التشويش على فكر أبنائنا، فإن حذفوا البسملة أم لم يحذفوها، فقد فاتهم الأوان؛ لأن عقول أبنائنا جُبِلت على حديثه عليه الصلاة والسلام، "لا تقل تعس الشيطان فإذا قلت تعس الشيطان تعاظم حتى يصير مثل البيت، ولكن قُل: بسم اللّه، فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب" (أبو داود).
وأنتم تتصاغرون بتصرفاتكم التي ترجون منها إبعاد النشء عن الدين، لكن الجزائري مسلم وسيظل كما علّمنا شيخنا ابن باديس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.