شذراتي عن نيتشه “3”

في الشذرة الثامنة عشرة من كتابه الفجر يقول نيتشه: ".. أخلاق المعاناة الطوعية - ما هي أسمى متعة يجدها الرجال الذين يخوضون الحرب، في هذه الجماعة الصغيرة التي لا يفتأ الخطر يهددها، والتي تسود فيها أشدّ الأخلاق صرامة؟...".

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/15 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/15 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش

الفضيلة هي المسكّن الذي يجعل الفرد الإنساني تائهاً بين الحياة وما يجب أن تكون عليه هذه الحياة، هي عبارة عن تجمّع مهمّ لما يصارعه الإنسان بين أمواج المبادئ كلّها، هي حزمة من قيَمٍ لا أساس لها سوى الدخول في خضم الواقع المنجَز من ناحية، والعودة إلى الذات من نواحٍ كثيرة غيرها، ولهذا يصبح الإنسان ضمن حلقة "الحيرة" الاجتماعية؛ لأن كافة المجتمعات من العالم الثالث هي تنزل منازل بعيدة جداً عما تُلقنه لأفرادها عن معاني الفضائل.

في الشذرة الثامنة عشرة من كتابه الفجر يقول نيتشه: ".. أخلاق المعاناة الطوعية – ما هي أسمى متعة يجدها الرجال الذين يخوضون الحرب، في هذه الجماعة الصغيرة التي لا يفتأ الخطر يهددها، والتي تسود فيها أشدّ الأخلاق صرامة؟…".

لا نزال كبشر نجهل ما معنى الفضيلة رغم التنظير الغزير لهذا المصطلح، وحتى تلك المثاليات التي تظهر عليها هذه الفضائل إلاّ أنها لا تتعدى كونها مجرّد أفكار تختزل القيم الإيجابية بعيداً عن كلفتها وشحناتها السلبية أيضاً، هذا ما يدفع الناس إلى الحيرة عندما يسمعون أنّ أحد رجال الدين قبض عليه مع مومس مثلاً، أو أنّ أحد القادة ما هو في الأصل سوى لصّ اختلس المال العام.

إن لم ترتكز الفضيلة على معنى واضح يسير التطبيق، فإنها تفقد مكانتها الفاعلة والفعلية بضربة واحدة، فلا مجال لتطبيق نصيحة تخرج من أحد أفواه الفاسدين! لأن الفاصل ما بين الصورة الذهنية عن جمال النصيحة تفقد قيمتها عندما يكون مصدرها إما غير مبالٍ بها في تصرفاته من جهة، أو عدم ملمّ بما يقوله أصلاً من جهة أخرى.

العلاقة بين الفضائل ومصدريها أو الداعين إليها أمر مهمّ، إذ الناس يحملون انتباهاً عجيباً في حالات كهذه، فهم لا يؤمنون بكلام كاذب يدعو إلى الصدق مثلاً، ولا سارق يدعو إلى حفظ الأمانة وتبليغها إلى أهلها؛ هذه النقاط تبقى مهمّة جدّاً بالنسبة للكثير من البشر على اختلافهم.

حتى في القصص الخيالية التي تركّب على شاكلة أخلاقية تدعو الناس إلى التمسّك بالفضيلة، فإنّ لها شروطاً للتحقّق العملي، إذ لا يمكن لإنسان أن يتخطّى مكانته كـ: داعية، ليجد نفسه وعبر أفعاله كـ: زنديق؛ إذ الفعل التطبيقي إذا ما تعارض مع الدعاية الوجدانية سيكون أوّل ما يبطل سريان هذه الأخلاقيات عملياً بين الناس، بل قد ينقلب عليها في الكثير من الأحيان ليفعل الفعل المعاكس تماماً.

هناك نماذج لامعة في الدعوة إلى الإنسانية، لعلّ أهمّها الداعية الهندي "غاندي"، بحيث المتأمّل في حياة هذا الرجل يمكن أن يرى تلك الصرامة وذاك الحرص الشديد لرجل لطالما دعا إلى المساواة ما بين البشر في الواجبات والحقوق، فهذا الرجل عاش عيشة تقشف وهو الذي يدعو إلى محاربة التبذير، كان حريصاً على البيئة وهو الداعي إلى حماية الوسط النباتي وحتى الحيواني، الأمر ليس في المتناول؛ لأن الأنفس تهوى اتجاهات أخرى.

الدعوة إلى الفضيلة، الأخلاق أو الإنسانية ليست أمراً سهلاً مثل الحياة بشكل عام، على الإنسان الداعية إلى هذا أن يكون ملمّاً بما يعتقد أوّلاً، ثم يعمد إلى تهذيب ذاته حتى تتماشى مع ما يدعو إليه، وبعدما يحقق شرط تطبيق الفضيلة في حياته، يمكنه بعدها الدعوة إليها انطلاقاً من نفسه كمثال حيّ أمام الناس.

دعاة كثر لا يتعدون في قيمتهم كونهم مجرّد فقاعات إعلامية لا غير، لقد انتبه نيتشه لهذه العبثية منذ زمن بعيد، وحذّر منها بشكل لافت، لسبب بسيط وهو أنّ ما يدعو إليه الداعية من فضائل غير مؤمن بها، ومهما طال الزمن وبدا ناجحاً في ذلك، إلاّ أنّ الواقع كفيل بقلب كلّ ما يصرّح به عليه، فالفعل على الميدان هو الحَكَم الذي يصدقه الناس دائماً، لا يمكن أن يحاضر جنرال قاد حرباً مدمّرة على الشجر قبل البشر عن السلام والأمان، فالناس تلاحظ ذلك وبانتباه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد