غريبةٌ هذه المدن الضاربة في أعماق التاريخ، عجيبةٌ بكل شيء فيها من الإنسان إلى العمران، مدنٌ لها طابعٌ وطرازٌ يختلف عن بقية المدن، الموصل المدينة الآشورية القديمة التي يعود بناؤها إلى قبل العصر الحجري بـ 6000 م.ق، هذه المدينة التي تمتاز بعمقها التاريخي وتكوينها البشري المتعدد الأديان والطوائف أعطى صبغة خاصة لها عن بقية مدن العراق، وهي المدينة الثانية بعد مدينة بغداد.
وبما أن الحال لا يدوم، وكما يصيب الإنسان مرضٌ أو فتورٌ أو حالةٌ من التوقف، أصاب مدينة الموصل هذا الحال، فمن منتصف العام 2014 م دخلت المدينة في معترك تسير فيه خارج عجلة التاريخ والحياة، أجل لقد هوت مدينة الموصل فما عاد فيها وصل، بل ما عاد فيها علمٌ ولا ثقافةٌ بصريح العبارة ساد الجهل، وأمسك بزمام الأمور مجموعةٌ من الرعاع والجهال وسيّروا شؤون الناس بالنار والحديد، مسكتين كل صوتٍ فكريٍ معتدل يعترض على نهجهم السقيم.
ومضتِ الأيام والأسابيع والشهور والسنوات، والمدينةُ وأهلها تعتصر ألماً وقهراً مع سكوتٍ مطبقٍ من العالم أجمع، بعد أن كانت محط أنظار العالم أصبحت خارج هذا العالم، ولكن دوام الحال من المحال، والليل مهما طال لا بد أن يبزغ فجر الحرية، وبعد مضي ثلاث سنوات عادتِ الموصل ولكن بملامح جديدة، ملامح الحرب والخراب، ملامح القتل والموت.
عادت الموصل بعد أن دفع أهلها الثمن غالياً، ولكن بقي أهل الموصل شمعة الأمل في الموصل، خرجوا من أزقة الموت ومن تحت أنقاض البيوت، ولكنهم يحملون في جنباتهم أملاً كبيراً، ولعل رؤية الشباب وهم يجوبون شوارع المدينة لتنظيفها وإزالة آثار الحرب شيءٌ باعث للطمأنينة بأن هدم العمران لم يؤثر على الإنسان، وانطلاق طلابها إلى أبواب المدارس التي اشتاقوا إليها ليفتحوا أبوابها؛ ليعلنوا انتهاء سنوات الجهل والظلام، ليعود عصر النور والعلم، ولعل الحدث الأبرز الذي يعد انطلاقة فكرية وحضارية في الموصل الجديدة (مهرجان القراءة الأول في الموصل).
أجل انطلاقة تاريخية وبدء عهد جديد، المهرجان الذي كان بمثابة كرنفال ثقافي وفني، حضر فيه الجميع طلبة وأساتذة ومهندسين وفنانين ورسامين، حضر الأطفال والشباب والشيوخ رجالاً ونساء أتوا من كل أحياء المدينة القديمة والحديثة؛ ليقيموا مهرجانهم تحت المكتبة المركزية التي أحرقها أعداء الحياة، أحرقوها ظانين أن بحرقهم لها سنبقى هكذا متفرجين عليها، نسوا بأن نملك الإرادة والعزم لنستخرج من رمادها حياة جديدة.
ولعل المفرح والذي يبعث في النفوس السرور رؤية الشباب وهم يبحثون عن الكتب، يبحثون عن الكتاب الذي يضيفُ لهم قيمةً معنويةً في عقولهم ويؤثر إيجاباً على سلوكهم؛ لأن المجتمعات المثقفة الواعية هي الأسرع ببناء حضارتها واستئناف الحياة من جديد، يومٌ من أيام الموصل الجميلة بل أعده من أسعد أيامي الثقافية.
ولعل المهرجان وكما أراه يحمل رسائل عدة:
1. الجمع بين الثقافة والفن، فالمهرجان جمع بين الموسيقى والكتاب وبين الفنان والمثقف، فشكل لُحمةً بينهما لنقدّم فناً بثوب الثقافة.
2. تسويق القراءة بشكل جيد حيث يستطيع الجميع الحضور حتى الذين ليس لهم اهتمام بالقراءة، ولكن ربما يكون المهرجان هو انطلاقتهم بالقراءة.
3. الأمل والإيجابية المرتسمة على وجوه الحاضرين دافعٌ لاستئناف الحياة الثقافية، رغم كل المعوقات البارزة في الوقت الراهن.
4. الحرية الثقافية والفكرية التي ستكون بمثابة انطلاقة رائدة في إزالة ترسبات الفكر المتطرف في المدينة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.