ما يتناوله صديقك في وجبات غذائية، ليس أمراً تافهاً، بل له أهمية كبيرة، لأنه خبّرك قصة كاملة، تحدثك عن مواقفه السياسية، ووضعه الصحي، وعن رغباته.
يقال إن الطريق إلى قلب الإنسان يمر عبر معدته، لكن الطريق إلى وجبة طعام جيدة هو نوع من التواصل بين الطعام ووصفات الطعام والأفكار والصور والإلهام المحلي. لقد حظيت صور الطعام، والمدونات حول الغذاء والتقديس الشهواني العام إزاء أصناف الطعام، باهتمام كبير، باعتبارها موضوعاً ساخناً في شبكات التواصل الاجتماعية. يشهد الواقع أن الإنسان أحد الصنفين، إما مناصر للاتصالات الغذائية أو مناهض لها، ولا يوجد على ما يبدو أرضية وسط بينهما، وأعتقد أن هذا عار.
لا تزال الجملة الفضفاضة النموذجية المعبرة عن رفض وسائل التواصل الاجتماعي ككل، تصاغ من قبل مستعمليها على النحو التالي "أوه، ليس لدي حساب في الفيسبوك، ولا أهتم بما يتناوله من يسمون بـ"الأصدقاء، من طعام أثناء الغداء!" (يضاف هنا قدر من الضحك المتعجرف)، لكن الحقيقة الميدانية هي أن مجريات الحياة تحدث هنا في شكل سيل متواصل من الصفحات الرقمية، وأن ما تناولته حفيدتك من طعام الغداء لا يقل أهمية بالنسبة لها عن مقابلتك في كرة القدم ليلة الجمعة في المدرسة الثانوية. إن معرفتك ولو القليلة عما يحبه الشخص الذي تحب (أو يعنيك معرفته) تكفي في حد ذاتها.
في طفولتي، كنت أنجذب بقوة جارفة نحو ما تعرضه الكتالوجات من أطباق طعام فاتنة داخل أوانٍ معروضة على صفحاتها، كانت قدراتي محدودة جداً، ولا تسمح لي بتحديد أنواع وأصناف الأطعمة التي وُضعت بشكل مُغر في أفران التحميص أو الخلاطات، لكن كان بإمكاني التحليق بعيداً والسفر بوجداني من خلال تخيل ملذات تلك الأذواق. كان خليط الحليب المجمد ومثلجات الفراولة الباردة جداً والناعمة، التي تمتص من خلال قشة مرنة، في يوم حار، بمثابة نعيم لا يقدر بثمن. لا تفارقني قط قوة تلك الصور التي تحملني وتهيم بذهني نحو لحظة طيبة، تنتشلني من مكاني في لحظة الوقت الحاضر.
يكون مثل الشعور وكذلك مشاركته مع الآخرين، داخل أعماق ذواتنا، نحن الذين نعشق الطعام. وأعتقد أن الطفرة العارمة التي يشهدها مجال الأفلام الوثائقية ذات الصلة بالزراعة والأفلام الغذائية، لها صلة أوثق برغبتنا في ربط أهل كوكبنا ببعضهم البعض، من لهفة تعلم فنون وكيفية طهي الطعام. وكل لقمة طعام تمر عبر شفاهنا بهدف تغذية خلايانا هي في الواقع دعوة موجهة إلى التربة (الغذاء) ثقافة العالم للانضمام إلينا والغوص في أعماقنا. من الجدير التفكير في الأمر. نحن نبتلع، بأتم معنى الكلمة، حلقة الحياة مع كل لقمة نلتهمها. وفي هذا الزمن المفكك، لا توجد طريقة أفضل لجلب البشر نحو (بالمعنى الحرفي والمجازي) الطاولة، من جعل هذه الطاولة جذابة ولذيذة وأنيقة، تسحر الألباب وتقنعهم بالجلوس حولها.
في زمن غابر كان الناس يجتمعون في الكنيسة، وفي ملاعب للكرة، أو في صالات الرقص، لكن الآن، القليل من تلك الأماكن أصبحت تشهد إقبالاً وازدهارا.
إن الذي يجمعنا اليوم هو الطعام ومتعته. إننا نحتفل، ونُصنف، ونتواصل من خلال شريط وثائقي لنيتفليكس أو داخل ذهن طاه محترف أثناء استكشافه نكهات العالم. يختار أكلة اللحوم النهمون معسكرهم، بنفس القدر الذي يدينون المتمسكين بقوة بالتوجهات الغذائية النباتية البحتة. وتسهم العلوم في تأرجح الآراء بقدر ما تؤكدها، لكننا على الأقل نلاحظ ذلك، على الأقل نعود إلى طاولة النقاش ونتبادل الرأي، مما يجنبنا بطبيعته صمت الانفصال.
هناك تأثير إنساني ناتج عن انكماش دائرة المجتمع القديم الذي كان يجتمع أفراده حول طاولة واحدة، لينحصر اليوم في وجبات الأسرة الواحدة قبل أن يتضاءل أكثر ويقتصر على ستاربكس انفرادي في الحافلة.
إن معرفة مصدر طعامنا، ومن هم الذين يعدونه لنا، ومع من نتقاسمه، يخبرنا عن مدى تغير نمط الحياة. إن اختيارك الاهتمام بالطعام، وصياغته لينصهر في الشكل الذي يناسبك وتقاسمه مع غيرك، يحمل قدراً متواضعاً من القوة الممزوجة بالبهجة، ولهذا السبب، فإن ما تناوله صديقك من طعام في وجبة الغداء ليس عديم المعنى مطلقاً، لأنه يقص عليك عملياً الحكاية الكاملة، ابتداء من مواقفه السياسية إلى وضعه الصحي ورغباته، وإذا لم تحضر اجتماع الطاولة، ستكون وحدك الغائب.
هذه التدوينة مترجمة عن النسخة الكندية من "هاف بوست". للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.