شادي.. شاب صغير في العشرينات من العمر، جاء إلى تركيا بعد الحرب السورية، شادي لم يكمل تعليمه الجامعي، فقد كل شيء وأصبح لزاماً عليه العمل ليؤمّن المعيشة للعائلة التي معه، فوالدته الأرملة، الموظفة سابقاً في سوريا، تعمل في المطبخ السوري المنزلي، لتأمين احتياجات المعارف من وجبات أو مساعدة الأخريات في الأعمال المنزلية.
وبعد أن عانت وعانى الأمرّين أخيراً وجد شادي عملاً عند مجلة إعلانية تجارية تخص الجالية السورية في تركيا، صاحبها المعلم لقمان وبحكم معارفه القديمة ووجود جزء منهم في تركيا، كرر مطبعته التي فقدها بفعل القصف في سوريا إنما كمشروع طرف ثالث، فهو يجمع الإعلانات ويطبع عند المطبعة التركية ويأخذ نسبته، شادي مهمته تصميم الإعلانات وإرسالها بالاً يميل إلى المطبعة، ولما رأى صاحب العمل من نشاطه وإخلاصه كلّفه بمهمة المحاسبة والأمور المالية.
وذات ليلة إبليسية حسب شاي العائد على الاستثمار فوجد أنه عالٍ، وأن دورة ريادة الأعمال التي حضرها في يوم ما وقالت له لا تبقَ أسير وظيفتك، كافأ صاحب العمل بأن أرسل له رسالة واتس معتذراً عن القدوم للعمل غداً، فذهب إلى أمّه وجمع مالاً وعدّده وما لديها من مدخرات، وكلم صديقه وحبيبه وخليله بأنه جمع مبلغاً، حيث قام على الفور بافتتاح شركته الخاصة الإعلانية، وأنشأ على الفور لها حسابات على كل مواقع التواصل، واستأجر المكتب ودفع الضرائب وجاء بالسكرتيرة، وبدأ بالاتصال بزبائن لقمان، ولكن الصدمة عدم الاستجابة كما توقع، كما قال له المدير المالي، ذلك الشاب الطائش الذي اعتقد أن الأمور قوانين رياضية فقط.
بحث شادي عن زبائن آخرين وضرب يميناً وشمالاً، بدأ بالإعلانات الممولة على الإنترنت، وبدأ مؤشر العائد على الاستثمار يذهب نحو حالة الطوارئ، شادي طرد السكرتيرة، شادي بدأ يبيع إعلانات بالمجان، شادي بدأ العمل من المنزل، شادي لم يجدد ترخيص الشركة، لم يدرك شادي أن السوق لا تحتمل مطبعة واحدة، فكيف بعشر؟! ضاع شادي.
لقد أحدث اختراع الطاقة النووية المعتمدة على الانشطار قفزة نوعية، وجاءت التكنولوجيا لتحدث أيضاً ثورة، والبعض قام بثورة انشطارية مستفيداً من التقدم التكنولوجي، وبالعودة إلى الوراء للنظر في جذور المشكلة نرى أن من السلوكيات الخاطئة التي تسبب فشل المؤسسات في عالمنا العربي هو العمل في إطار فردي تنافسي بين العاملين في الشركات والمؤسسات، مما يخلق مشاعر سلبية مثل الكراهية والعداء والبغض والغيرة تؤثر على نجاح المؤسسة؛ لأنهم بكل بساطة يقفون حجر عثرة أمام المبدعين؛ لأنهم يخشون أن يبدع أحدهم فيخطف منهم منصبهم.
ولهذا نجد أن نظم العمل في معظم المؤسسات لا يمكن أن تتطور نتيجة انشغال كل موظف بالتفكير في إفشال عمل زميله، أو بالتفكير في أن يحقق نجاحاً يتفوق به على زملائه، بل وربما يرشح المشرف مساعداً فاشلاً له حتى يظل دائماً متميزاً عليه دون النظر إلى مخاطر ذلك على المؤسسة واستمرارية نجاحها، وانسحب ذلك مؤخراً إلى المشاريع الوطنية؛ حيث يبدأ المشروع بمجموعة غالباً مخلصة ووطنية ثم يقدمون غيرهم للقيادة، مَن يتسلم القيادة غالباً ما يكون إما محباً للكرسي أو عبداً لمصلحته الشخصية أو المادية، فيبدأ بالتخلص من منافسيه وغالباً المنافسون يكونون هم أنفسهم مّن أسس وأطلق المشروع، ثم وبعد أن ذاق البعض طعم الشهرة والإعلام يبدأ التخطيط للبقاء لأكثر فترة ممكنة فقد لا تعود الفرصة.
هنا تبدأ الفئة المخلصة الموجودة في المؤسسات أو الهيئات أو التكتلات تبدأ بالانسحاب أو التقوقع على نفسها والتفكير بمشروع وطني جديد، والعودة إلى نقطة البداية؛ لذلك نرى أن هيئات ومشاريع وتكتلات وطنية تتكاثر بالانشطار، حتى وصل بنا هذا الداء إلى غروبات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك وتويتر ومجموعات الواتس)، فأي اختلاف ضمن مجموعة الواتس الإخبارية على مدى مطابقة (جمعة مباركة) التي أرسلها أحد الأعضاء مع تعاليم الدين الحنيف أو أنها بدعة، قد ينشطر الغروب إلى غروبين كل واحد فيهما يحوي أعضاء (X-1 ) وهذا العضو الناقص هو مدير الغروب الثاني الشبيه، بحيث إن الطرفة التي تم تداولها سابقاً عن إنشاء النساء لغروبات واتس (إخواتي بدون الكناين)، (أنا وسلافي بدون سلفتي المحروقة)، وجدناها الآن في مشاريع وطنية عملاقة وفي وقت حرج لا يحتمل التعالي، بل على العكس الشعور بالمسؤولية وذوبان الشخصية في القضية وليس العكس، لدرجة أنه أحياناً يخطر على بالك أن تقول:
نشكر السيدين سايكس وبيكو على تقسيم الدول العربية إلى 22، ما أدري 23 دولة، فلولاهما لكان كل حارة دولة أو كل بنايتين دولة، وعاشت أمتنا العربية مُحطمة مُفتتة مُجزأة مُتناحرة مُتقاتلة.
إن الترياق النوعي لذلك هو العقل الجمعي الذي يستوعب كل الأفكار ويصهرها في بوتقة واحدة تعمل متناغمة كمحرك قطار سريع يسير على سكة مرسومة مسبقاً، ضمن شبكة معدة سلفاً من قِبل حكماء درسوا التجربة معاً وخاضوها وقدموا نصائحهم.
أما إذا أتيح لكل شخص الفرصة لتأسيس منظمة إنسانية أو نشاط سياسي، وأعتقد أن الأمر في نهاية المطاف سيحول هذه المنظمة بمن جندهم تحت مسمى توظيف إلى حكومة، فسنغنّي له: ضاع شادي، وليس المهم شادي الآن المهم الوطن الذي سيصحو يوماً من الألم الجاثم على صدره، ويحاسب كل مقصر وكل بما عمل.
(وقِفوهم إنهم مسؤولون)، فإذا كنت لست أهلاً للقيادة أو للتكلم والتحكم بأمور العامة فتنحّ جانباً وراقِب وقيّم وارفض الخطأ، وإذا لم تستطِع فأنكر ولو بقلبك ودرِّب نفسك واستثمر فيها، وارجِع للمعركة فالقضية لا تحتمل "فيروز" أخرى تغنّي لشادي وضياعه، اللحظة تحتاج لقمان الذي يعرف أن الأمور لا تحتمل إنشاء مطبعة جديدة وإعادة اختراع العجلة من الصفر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.