نعم فكما صدمكم صدمني، هذا المصطلح الذي سمعته مرة وتكررت، من شباب تائه، أحرص على الجلوس معه والاستماع له، بحشرية منّي أو بطلب منه، ولكن لماذا الآن؟ وماذا سيقدم لك الإلحاد؟ وأين الحل؟ ومن المسؤول؟!
ليس بعيداً من هنا فقد خرج أحد الدعاة الذي يدعو من الحرم المكي بجلالة منزلة المكان وهيبته، يدعو لمن يتابع صفحته على الفيسبوك، هذا الداعية الذي لطالما أحبّه الناس والشباب هو وغيره وكان سبباً في هداية البعض لسنوات، فجأة وبدون سابق إنذار كان له موقف مؤيد لانقلاب مصر منذ سنوات ثم محاصرة بلاده لقطر قبل أشهر، وتأييد كامل لأي موقف لرئيسه الذي خص بالمعايدة يوماً كل المسلمين عدا قطر، فخص هو بالدعاء لمتابعي صفحته على الفيسبوك، ولكن لا ندري إذا ما كان أحد المتابعين من المعارضين لسياسة مصر أو السعودية، كيف سيكون التأمين على الدعاء الذي قال فيه: (اللهم أعطِ مَن يتابع صفحتي ويؤمّن على دعائي عمرة أو حجة قريبة)، فهنا المؤمن على الدعاء لن يحصل على فيزا لأداء العمرة إذا كان من المغضوب عليهم أو من الفئة الضالة التي تحدث عنها أئمة المشاعر المقدسة؟! فهل ندعو دعاء مستحيل؟! وهل بدعاء (أعطِه حجة قريبة) سيحصل على حجة استثناء غير التي ستأتي بعد عام هجري كامل؟! مفارقات لا متناهية كشفت ضعف ووهن القاعدة الفقهية الصحيحة وأدب الدعاء، فهل يجوز تخصيص مسلم دون غيره بالدعاء؟ أم القاعدة تقول أن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنتم أصحابي والذين لم أرَهم أحبابي)، ماذا لو قال اللهم أدخل الجنةَ أصحابي فقط؟!
الفلكلور الديني وحكواتية الدين يخرجون علينا بين الفينة والأخرى ببدع خالصة لوجه السلطان، فشيخ الأموي يطلب ممن لم يستطِع الوقوف بعرفة أن يقف بقاسيون، لكن لماذا لم يستطِع البعض من السوريين الوقوف بعرفة يا حضرة الخطيب؟!
لقد تسلم الحج منذ سنوات الائتلاف السوري المعارض، ولم يستطِع سوريو الداخل الذهاب إلى الحج خوفاً من المساءلة من قِبَل النظام.
إذاً المسألة هي خلط السياسة بالدين، أين مروءة قريش التي كان لزاماً عليها تأمين وخدمة زائري مكة حتى لو كان عدواً، لقد ضاعت، أين الفقهاء المدافعون؟
يقول ميكافيلي في كتابه الأمير الذي يعتبر من مرجعيات الطغاة والمستبدين: الدِّين ضروري للحكم، لا لخدمة الفضيلة، ولكن لتمكين الحكم من السيطرة على الناس
هؤلاء الذين وظفتهم الأنظمة الوظيفية لتصدر الموقف بشتى الطقوس الدينية التي وإن اضطرت الحاجة نخلقها.
وكأني سمعت أحداً يتكلم مسبقاً عن الطقوس الدينية فأين؟
نعم إنه في كتاب استراتيجي آخر اسمه قواعد السطوة لمؤلفه روبرت غرين الذي اشتهر بكتبه الاستراتيجية، يقول في هذا الكتاب:
استغل حاجة الناس إلى الإيمان لخلق أتباع طقوسيين؛ اصنع لهم طقوساً يؤدونها، واطلب أن يؤدوا التضحيات باسمك، فحين تضعف عقيدة الناس وإيمانهم سيمنحك مذهبك سطوةً عليهم لا يحدها حدود، ويشرح في الكتاب ذاته شرحاً مطولاً عن الشعوذة وكيف تأتي عبر الأزمنة على أشكال مختلفة.
لكنه يقول عندما (تضعف عقيدة الناس)، أي هناك وقت لخلق طقوس دينية جديدة وبدع، وهو ضياع الأصل أو التقصير في إيصاله للناس بالشكل الصحيح، حينها يصبح حضور دروس الداعية جزءاً من الفريضة أو جعل القرآن مزيناً مزركشاً في لوحة جدارية هو مفتاح الجنة!
لكن ماذا إن غابت التربية الدينية الصحيحة ولفترات طويلة مزمنة؟ حينها سنصل للإلحاد الذي يقدم فيه الباحث النفسي بول فيتز في إحدى نظرياته، وهي نظرية التقصير الأبوي التي افترض فيها أن صورة الأبّ بالنسبة للشخص تنعكس على تصوّره للإله، فبالنسبة لفيتز فإن "هؤلاء الذين لديهم آباء ضعفاء أو أساءوا معاملتهم بدنياً أو نفسياً أو جنسياً يعانون صعوبات في تبنّي الإيمان بالإله من نظرائهم الذين لديهم آباء جيّدون أو صالحون، لا تقف نظرية فيتز عند الأبّ العضوي فقط، وإنما تمتدّ لتشمل رجال الدين أيضاً، فهو يرى أن أي انحراف يشين رجال الدين يُعتبر عاملاً قوياً ممهداً للإلحاد، فرجال الدين يرمزون للدين نفسه، ومن ثَم فإن انحرافاتهم تؤخذ على الدين ويمكننا رؤية صحة هذه النظرية في عالمنا العربي، وهي عامل منطقي في إلحاد أتباعهم؛ إذ إن ممارسات رجال الدين في المجال السياسي أحبطت الإسلاميين وغير الإسلاميين على حدّ سواء، وزاد من حدّة الإلحاد العربي الممارسات "الداعشية" التي وفّرت مادة خام للإعلام لتشويه رجال الدين، فدفع هذا الكثيرين إلى نبذ الدين بالكلية لا إلى نبذ رجال الدين فحسب، فكيف إذا كانت الرموز التي أحببناها قد أشركت نفسها في السياسة وسيّست الدعاء وخطبة عرفة وطالبت الناس بالتقرب إلى الله من خلال الدعاء وكسب رضا ولاة الأمور؟
وهكذا فنحن كنا أمام خطة محكمة قامت بتفريغ الإيمانيات وتعبئة هذا الفراغ بطقوس أخرى وتعليق الناس فيها بعد نقصان إيمانهم، ثم فرض سيمفونية مدروسة، وهذه الخطة بدأت من التعليم ففي بلادنا العربية الصف الأول من حيث التعلم يذهب للكليات العلمية والطبية والصف الثاني يذهب للتدريس والعلوم النظرية، أما الصف الثالث فما دون فيذهب لوظائف الدولة والسياسة ويقوم بإدارة الصف الأول والثاني والصف ما قبل الأخير يذهب للجيش والأمن، والصف الأخير يذهب لتعلم الدين والشريعة، ويدير الصفّين الأخيرين كافة الصفوف السابقة.
الله مخلصنا فلا تجعلوا المتحدثين باسمه يشركون معه أحداً، وعلى الفقهاء الواثقين بعلمهم العودة للظهور على المنابر المختلفة، فهذا الفراغ الإيماني يجب تعبئته، فلتقوموا أنتم به، بعد إعادة إخراج لخُطب المنبر الذي حرمتم منه، وخاصة في سوريا على أشكال أخرى تناسب الواقع وتعطي الأمل للناس وللشباب، فلكُم في رسول الله أسوة حسنة؛ حين قال في جنازة يهودي: (نفس أفلتت منّي إلى النار)، فهل تفلتون الأنفس التي حولكم تذهب إلى اللاإيمان وبين أيديكم آلاف المنابر الحرة؟! لقد كان أبو رضوان وعائلته قبل أن اعتناق المسيحية في ألمانيا مؤمنين برسالة الإسلام في حمص السورية، ولكن ثلاث سنوات غدارات جعلتهم يبحثون عن تعبئة فراغ إيماني شعروا به وفرض علينا وعليهم، والناس بالفطرة تعرف أن الله موجود وتلجأ لبيته، لولا عبث عابث يمجسّهم، ولكم في تكساس مثلاً، فالجوامع استقبلت متضرّري الفيضان وهم لجأوا إليها آمنين، فلقد استشعروا فيها مرسى الجودي (سفينة نوح).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.