لا تحجّوا لكن دعونا نحجّ

أما خلفاء العصر العباسي الثاني الذي امتد من سنة 248هـ إلى سنة 656هـ، وعددهم ستة وعشرون خليفة، شغلتهم جميعهم حياة الترف والبذخ والانقسامات الداخلية، وضعف الدولة، عن أن يُفكروا في الخروج إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، ولعل ثورات القرامطة الذين اجترأوا على مهاجمة الكعبة وسلب الحجر الأسود، وقيام الدولة الفاطمية في مصر وسيطرتها على الحجاز من العوامل التي حجبت الخلفاء العباسيين، ومنعتهم من الحج.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/04 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/04 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش

الحج هو ركن من الأركان الخمسة للدين الإسلامي، فبعد الشهادتين وإقامة الصلاة وصوم رمضان ودفع الزكاة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وفي حين أن الصلاة والصوم عبادة بدنية، إلا أن الزكاة عبادة مالية، والحج عبادة مهمة تجمع بين البدن والمال.

ويطرح الدين الإسلامي بعض الشروط لمن يرغب بإقامة فريضة الحج مثل أن يكون الذاهب للحج بصحة جيدة، وأن يكون الذاهب للحج حائزاً على تكاليف ومصاريف أهله في فترة غيابه، أما من ناحية الحالة الصحية وتكاليف الحج فلا يوجد أي مشكلة بخصوص هذين الأمرين من ناحية الخلفاء والملوك والسلاطين عبر التاريخ.

وفي تفسير ابن عباس لآية (وأذّن في الناس بالحج)، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذّن في الناس بالحج، قال: ربِ وما يُبلغُ صوتي، قال: أذّن وعليَّ البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس.. كُتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، قال فأسمعَ الله مَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من سبق في علم الله أن يَحُج إلى يوم القيامة (لبّيك اللهمّ لبّيك).

ويبدو أن كثيراً من الخلفاء والملوك والسلاطين لم يكونوا من ضمن مَن سمع هذا النداء فلبّاه، وهذا ما بيّنه لنا كتاب "الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك" لتقي الدين المقريزي، الذي بيّن لنا في أن الخلفاء الراشدين الثلاثة الأُول قد حرصوا دائماً على أداء مناسك الحج، بل إن منهم مَن كان يحج في كل سنة من سنوات خلافته كما فعل عمر بن الخطاب، وكذلك فعل عثمان بن عفان، رضوان الله عليهم.

أما عبد الله بن الزبير الذي بويع بالخلافة في الحجاز، فقد ذكر أنه حج ثماني حجج من أصل تسع سنوات، حكم فيها قبل أن يقتل على يد الحجاج، الذي كان يدين بولائه لعبد الملك بن مروان، الذي كان يحكم في الشام.

أما خلفاء بني أمية الذين امتدت خلافتهم من سنة 41هـ إلى سنة 123هـ، وعددهم أربعة عشر خليفة، فلم يحجّ منهم إلا خمسة خلفاء فقط هم: معاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، والوليد، وسليمان، وهشام، أبناء عبد الملك، ومنهم مَن حج أكثر من مرة مثل معاوية وعبد الملك، أما الثلاثة الآخرون فقد حجّوا مرة واحدة.

أما خلفاء بني العباس في بغداد، الذي يُعد العصر الأول لحكمهم، والذي امتد من سنة 123هـ إلى سنة 248هـ، وعددهم أحد عشر خليفة، فلم يحج منهم إلا ثلاثة، هم: أبو جعفر المنصور، وأبو عبد الله المهدي، وهارون الرشيد.

أما خلفاء العصر العباسي الثاني الذي امتد من سنة 248هـ إلى سنة 656هـ، وعددهم ستة وعشرون خليفة، شغلتهم جميعهم حياة الترف والبذخ والانقسامات الداخلية، وضعف الدولة، عن أن يُفكروا في الخروج إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، ولعل ثورات القرامطة الذين اجترأوا على مهاجمة الكعبة وسلب الحجر الأسود، وقيام الدولة الفاطمية في مصر وسيطرتها على الحجاز من العوامل التي حجبت الخلفاء العباسيين، ومنعتهم من الحج.

أما خلفاء الأندلس فلم يذكر التاريخ أن أحداً منهم قد حج، وذلك لأنهم لم يكونوا على علاقات طيبة مع الخلافتين العباسية والفاطمية اللتين تناوبتا الإشراف على الأراضي المقدسة في الحجاز، ولهذا كان من العسير أن يمر خلفاء الأندلس الأمويون بأراضي الخلافتين في طريقهم للحج، ومن الجدير بالذكر أن كثيراً من علماء الأندلس قد أصدروا فتاوى تُحرم رحلة الحج، وأسقطت فريضة الحج عن أهل المغرب والأندلس، وذلك حفاظاً على سلامة الأندلسيين من قُطاع الطُرق في البر والبحر، أو حفاظاً على سلامتهم من الأسر على يد النصارى، خاصة إبان الحروب الصليبية التي استعرت في المشرق.

أما الخلفاء الفاطميون في مصر، الذين كانت لهم السيطرة على بلاد الحجاز واليمن، وكان عددهم أحد عشر خليفة، وامتد حكمهم من سنة 341هـ إلى سنة 567هـ، فلم يحج أحد منهم، وعلى الرغم من أنهم لم يَحُجوا لكنهم عنوا عناية كبيرة بقوافل الحجاج من الشعب المصري، وكانوا يصرفون عليهم بكرم وسخاء، ويتكفلون بمصاريفهم.

ويذكر التاريخ أيضاً أن ملوك بني أيوب في مصر لم يحج أحد منهم، ولعل السبب في ذلك انشغالهم جميعهم بالجهاد ضد الصليبيين، ومما يُذكر أن السلطان صلاح الدين الأيوبي نوى الجهاد عقب تحريره للقدس، إلا أن المنية قد عاجلته قبل ذلك.

أما دولة المماليك التي حكمت في مصر، وكان عدد سلاطينها ثمانية وأربعين سلطاناً، فلم يحج منهم إلا الظاهر بيبرس البندقداري، ثم حجّ بعده الملك الناصر محمد بن قلاوون.

أما سلاطين الدولة العثمانية التي استمرت من عام 1299م إلى عام 1922م، وعدد سلاطينهم ستة وثلاثون لم يثبت في التاريخ أن أحداً منهم أدى فريضة الحج، وذلك لعدة أسباب، حددها المؤرخ التركي محمد مقصود أوغلو، أهمها عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما أن طرق الحج عام 1517م كانت بيد الدولة المملوكية، وبعد قضاء السلطان العثماني سليم الأول على الدولة المملوكية في معركة مرج دابق بدأ الخطر البرتغالي والإسباني الذين كانوا يهاجمون جدة بهدف احتلال مكة ومقايضتها بالقدس مع الدولة العثمانية، لكن القائد العثماني لمكة الأمير نوماي دافع بكل شجاعة وعزيمة عن مكة، واستطاع دحرهم وإفساد خططهم، عدا عن ذلك كله فقد استند العديد من الأمراء العثمانيين على العديد من الفتاوى الشرعية التي صدرت في ذلك العهد، وقضت بأنه يمكن لهم إرسال وكيل لتخفيف الضرر، والحفاظ على الديار الإسلامية وأمنها واستقرارها.

أما في عصرنا الحديث فيبدو أن المسؤولين يؤدون فريضة الحج؛ لأنها ضمن بروتوكولاتهم السياسية لا أكثر، ونلحظ عدم الحرص عليها أو القيام بها لمرة واحدة فقط مع مقدرتهم على تأديتها أكثر من مرة، وحتى في هذه المرة الوحيدة يقع الكثير منهم في أخطاء مثل قيام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي بأمر مرافقيه بالهتاف له داخل الحجرة النبوية، ورغم ذلك يسعى البعض منهم لمنع الناس من تأدية مناسك الحج بحجج واهية، وأصبح الحج يخضع لأهوائهم السياسية، ويُظهر لنا التاريخ أن أول مَن سيَّس الحج هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان؛ حيث منع أهل الشام من الحج، عندما كان عبد الله بن الزبير يسيطر على الحجاز؛ لأنه كان يتعرض لبني أمية في خطبة الحج، ويظهر فسادهم واغتصابهم للخلافة، ثم توالت حوادث تسييس الحج في العصر الحديث، ففي عام 1925 منعت العراق حينما كانت مملكة مواطنيها من تأدية مناسك الحج بسبب خلاف حدودي مع مملكة نجد التي كان يحكمها الملك عبد العزيز، وفي الثمانينات منع نظام القذافي مواطني ليبيا من الحج أكثر من مرة بسبب خلافات مع المملكة السعودية وفي عام 2009 منعت تونس الحج على مواطنيها بحجة الخوف من إنفلوانزا الخنازير، ثم أصبحت السعودية تتحكم في الحج، فأخذت تحرم كل مَن لا يسير في ركابها، فحرمت المواطنين السوريين في مناطق سيطرة النظام من الحج منذ بداية الأزمة السورية، وحرمت اليمنيين في مناطق سيطرة الحوثيين من الحج، وأخذت تحرم كل مَن يوجّه لها انتقاداً كما حصل مع الشاعر الجزائري محمد جربوعة ، وآخر فصول تسييس الحج هو التضييق على الحجاج القطريين بهدف المنع، وتسجيل كل طرف نقاطاً ضد الآخر.

يا أصحاب الفخامة والسعادة والجلالة والسمو.. لا تحجوا هذا شأنكم، لكن دعوا الناس تحج، دعوا الناس تُسمع الله أصواتهم، دعوا الناس تلتقي بالله، فلكل واحد منهم حاجة لا تستطيعون أن تقضوها دعوهم، فربما بدعاء أشعث أغبر يتغير حال هذه الأمة وحالكم، واحذروا الله فلن تُعجزوه (وما لهم ألا يُعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤهُ إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الأنفال: 34).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد