بعد أن انتهينا من قراءة الجزء الأول والثاني من رواية مدن الملح، وصلنا إلى الجزء الثالث، الذي أطلق عليه مؤلفها اسم تقاسيم الليل والنهار، وفي هذا الجزء يغوص بنا عبد الرحمن منيف في أعماق الصحراء التي لا يعرفها إلا أهلها، ويسهب في وصف قاطنيها من البدو، ويصف تركيبتهم النفسية التي تأثرت بنمط معيشتهم، ويصور لنا معارك الصحراء التي تنشأ بين شيوخ القبائل، ويوضح لنا دوافع هذه المعارك، التي تشتعل من أجل صراع شيوخ القبائل والإمارات على موارد المياه ومراعي الغنم، التي تشكل مصدر الرزق الأساسي في هذا المجتمع البدوي القائم على الرعي.
وبعد أن يشركنا في هذه المعارك، التي تنتهي في الغالب بمطاردة لاستئصال العائلة التي كانت تحكم هذه المنطقة، حتى لا تعاود المناوشة مدفوعة بالطموح لاسترجاع سلطتها على المنطقة التي نزعت منها بالقوة.
وقد جعل الكاتب من "موران" عاصمة السلطنة مركزاً للأحداث في هذا الجزء، كما كان الحال في الجزء الثاني، ولكنه رجع بنا إلى الماضي؛ ليبين لنا الطريقة التي قامت عليها هذه السلطنة، من معارك رهيبة أريقت فيها الدماء بغزارة شديدة تحت ستار الدين والجهاد.
شخصية السلطان "خريبط" مؤسس سلطنة موران، وعميل الإنكليز أو حليفهم إذا أردتَ تهذيب اللفظ، والذي لم نلتقِ به إلا في مشهد احتضاره في بداية الجزء الثاني كانت هي الشخصية الرئيسية في هذا الجزء، والذي أبرز الكاتب كيف حافظ هذا الرجل على تنفيذ تعليمات الإنكليز وإطاعة أوامرهم ليوسع حدود سلطنته.
تماهى خريبط مع رغبة إنكلترا في إنشاء دول كبيرة نسبياً تستطيع من خلالها السيطرة على المنطقة بسهولة بدلاً من أن تشتت نفسها بين أمراء القبائل ومشايخ الإمارات الصغيرة، فأمدوه بالأموال والأسلحة، وتغاضوا عن المجازر التي ارتكبها في خصومه وحلفائهم السابقين، الذين أدوا أدوارهم، وأصبحوا عبئاً على إنكلترا، لمطالبتهم بمقابل الخدمات التي أدوها للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
في هذا الجزء تم تسليط الضوء على علماء السوء شيوخ السلطان ودورهم في شحن الناس وشراء ذمم زملائهم، عن طريق الرشاوى المقنعة، ومدى اهتمام خريبط بأن يكون جهاز كامل من هؤلاء العلماء؛ ليستطيع التحكم في مشاعر العامة في أي وقت بتكفير من شاء وإلباس ثياب التقى والتدين لمن شاء، وقد أغدق خريبط المال عليهم، وأذاقهم طعم الترف لكي لا يستطيعوا الاستغناء عنه أو عن أمواله، وكان خريبط يحاول إلباس حروبه مع خصومه صبغة الدين والجهاد، على الرغم من أنهم مسلمون، ومَن تسوّل له نفسه ويقوم بتنبيه الناس إلى أن دم المسلم حرام، كان يتم إعدامه بلا رحمة.
وفي هذا الجزء أيضاً ظهرت بوضوح شخصية الأمير فنر الذي انتهى الجزء الثاني بوصوله إلى كرسي السلطنة على ظهر دبابة، وكيف أنه تتلمذ على يد عميل إنكليزي، ذهب به أكثر من مرة إلى إنكلترا كسفير عن والده السلطان، وعرفنا سبب قيامه بالانقلاب على أخيه السلطان خزعل، وظهر لنا بجلاء إيمانه الشديد بضرورة استقواء الحاكم بالدول الأجنبية.
الشعب في هذا الجزء كان يتحرك إما دفاعاً عن القبيلة أو حميةً للدين أو طمعاً في المال والتقرب من السلطة، وكان الحاكم في هذا الوقت يخالطهم ويداريهم ويحسب لهم ألف حساب، فهم يده التي يبطش بها وقدمه التي يسير عليها، بدونهم لن يسعّر حرباً ولا يدخل معركة، فحكام هذا الوقت لم يعرفوا الجند النظامي بعد.
وقد انتهى هذا الجزء بتمكّن خريبط من هزيمة كل خصومه، وتربّعه على عرش سلطنة موران التي أكلت ما حولها؛ لنعود إلى الحدث الأبرز الذي توقفنا عنده في نهاية الجزء الثاني وهو انقلاب فنر على أخيه السلطان خزعل؛ لنرى ما تخبئه لنا صفحات الجزء الرابع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.