قرّرت هذا العام الاستغناء عن شراء الخروف، فالعيد أحوال، كما ورد في سؤال الشاعر الكبير أبي الطيّب المتنبّي: عيد بأيّة حال عدت يا عيد؟
وقد منعتني ظروف قاهرة من السفر إلى بلدتي الصغيرة؛ حيث نحتفل بالعيد في جمع كبير يضمّ الأولاد والأحفاد مع جدّهم وجدّتهم، أطال الله في عمرهما.
نجتمع في حديقة البيت مستمتعين بصخب الصغار وجلبة الكبار الذين يتعاونون على ذبح عدد لا بأس به من الخراف، أو ثور عظيم نشترك في شرائه والتهامه مطبوخاً ومشويّاً ومقدّداً.
نفر المتنبّي من العيد لمّا داهمه بالصحراء؛ إذْ لا معنى للأعياد بعيدا عن الأهل والأحبّة. وقد ترجم صاحبنا شعوره بصورة تعبّر عن لوعة الوحدة والفراق فقال بيته الشهير:
أمّا الأحبّة فالبيداء دونهم ** فليت دونك بيدا دونها بيدُ
تقترن قيمة الأعياد إذن بالمكان، وهذا ما يعرفه الناس الذين يسافرون للاحتفال بها في مسقط رؤوسهم؛ حيث يسكن أقاربهم، فإذا تعذّر عليهم ذلك السفر قضّوا أيّام عطلتهم في نوم طويل وكسل ثقيل، خاصّة عندما تكون الإقامة في العواصم والمدن الكبرى التي لا تتهيّأ فيها الظروف الملائمة لاقتناء الخرفان وإيوائها ثمّ ذبحها.. فلا يرغب أكثرنا في استضافة خروف مزعج في شقّته بالطابق الخامس أو السادس أو السابع والأربعين.
يحدث ذلك أحياناً، فترى أحد الجيران في "السلالم" أو في المصعد صُحبة خروف "يبعبع" ومعه رزمة من العلف لقضاء ليلة أو ليلتين في المطبخ أو في شرفة البيت.
والمعلوم أنّها ليلة ضيق وأرق لسكّان البيت ومَن جاورهم بسبب ذلك الضيف الثقيل الذي غادر المزرعة؛ ليقيم في برج رهيب إلى أجل لا يعلمه ولا يفهم دواعيه.
شخصيّاً لا أغامر بذلك الصنيع، ولا أعتقد أنّ الإسلام يقبل أن تتحوّل أعيادنا إلى جملة من المكاره؛ لذلك اشترط الشارع توفّر الاستطاعة في الكثير من الشعائر، وتشمل القدرة في شأن عيد الأضحى طبيعة المسكن الذي نقيم فيه، بالإضافة إلى توفير ثمن الأضحية ومعرفة قواعد الذبح وما يتبعها من سلخ وتقطيع، وتلك مهارات بدأت تنقرض بسبب تغيّر أنماط الحياة في عصرنا الحديث.
وهكذا عزمت على الاقتداء بابن عبّاس (رضي الله عنه وعنّا جميعاً)، فله نظرة مخالفة في التضحية، رواها خادمه عكرمة؛ حيث قال في حديث دوّنته الآثار، واستدلّ به الفقهاء الكبار: "كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحماً ويقول: مَن لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس".
وغالباً ما يقع إيراد هذا الحديث في سياق البرهنة على عدم وجوب التضحية؛ فقد رُوي أنّ أبا بكر -رضي الله عنه- تركها، وكذلك عمر، وابن عباس، وعدد من الصحابة، خشية أن يرى الناس أنّ التضحية واجبة، كما قال الطحاوي في مختصر العلماء. وروى الشعبي عن أبي سريحة قال: رأيت أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- ما يضحيان كراهة أن يُقتدى بهما.. وقال ابن عمر: ليست بحتم.. وقال أبو مسعود الأنصاري: إنّي لأدَعُ الأضحى وأنا مُوسِرٌ مخافة أن يرى جيراني أنّه حتم عليّ.
والغريب أنّ الأئمّة الخطباء لا يذكّرون بتلك الأحاديث، وفيها رأفة بالمؤمنين الذين يحمّلون أنفسهم ما لا يطيقون، بل ينشغلون في خطبهم ودروسهم بالخوض في شروط الأضحية، يذكرونها بالتفصيل المملّ على نحو يتنافر مع مظاهر الرقيّ التي شهدها ميدان التسوّق في عصر الشبكات والبطاقات الذكيّة وخدمة توصيل المشتريات إلى البيوت المعلّقة بين السماء والأرض.
ولتعميم الفائدة دينيّاً ولغويّاً، أُوردُ بعض ما جاء على لسان إمام المسجد القريب من بيتي؛ حيث ذكر في خطبته الثانية كلّ التفاصيل، (سامحه الله)، فقال والمصلّون في شغل عن أقواله، وبعضهم نائم: "لا يجزئ في الأضحية العمياء والعوراء البيّن عورها، ومقطوعة اللسان بالكلّيّة والجدعاء، مقطوعة الأنف، ومقطوعة الأذنين أو إحداهما أو ما ذهب من إحدى أذنيها مقدار كبير، والعرجاء البيّن عرجها، والجذماء – مقطوعة اليد أو الرجل، والعجفاء، والبكماء، وهي فاقدة الصوت، والبخراء، وهي منتنة رائحة الفم، والصمّاء، والهيماء، وهي المصابة بالهُيام، وهو العطش الشديد الذي لا ترتوي معه.. ولا يضرّ التضحية بالحولاء، ما دام بصرها باقياً، ولا الصمعاء، وهي صغيرة إحدى الأذنين أو كليهما، ولا العمشاء، ولا ضعيفة البصر..".
والحمد لله أنّ ذلك الخطيب لم يكلّفنا بزيارة طبيب العيون لقياس النظر واختبار مدى سلامة بصر الخرفان.. ولكنّه لم يكن على العموم من هواة التيسير وإلاّ لحدّثنا عن أضحية ابن عباس، ذلك الصحابيّ الحداثيّ الذي سبق عصره، فأثبت بموقفه التقدّميّ أنّ الإسلام دين يسر، "ولا يكلّف الله نفساً إلا وُسْعها"، وكلّ عام وأنتم بخير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.