قبل الجبانة المسوّرة على اليمين يوجد مبنى للاستقبال وثلاث صالات للتأبين فوقها قبة كبيرة. وكانت ألوان الصالة التي دخلتها تتوزع بين الأسود والأبيض والبني الغامق المحروق، نظيفة جميلة كأنها قاعة سينما صغيرة، وبها عدد كبير من الكراسي الخشبية المريحة وشاشتان كبيرتان للعرض، واحدة في المقدمة والأخرى على اليمين.
لم يكن الوضع غريباً عليّ فقد رأيت شبيهاً له في أفلام كثيرة.
وفي الأمام كانت منصة للحديث، وعلى يمينها وُضع تابوت خشبي محاط بالورد وفوقه باقة من الزنابق البيضاء المجدولة في الأخضر، وجدتني أتقدم في الصالة حتى أقصى بُعدٍ ممكن لأرى كل شيء واسمع المتحدثين. وتذكرت أن أبي -رحمه الله- كان إذا مات صديق قبطي له يذهب إلى الكنيسة للتعزية وحضور التأبين، وكان يتعمد أن يدخل حتى يقترب من القسيس الذي يمارس الطقوس، ويجلس في أفضل مكان ممكن حتى يتفرج ويفهم!
بدأت المراسم بعرض صور للمتوفاة منذ طفولتها وحتى وفاتها، وذلك على أنغام الأغاني التي كانت تحبها، هكذا تصورت، وكلها أغان إنكليزية حزينة، ولم تكن هناك أغنية فرنسية واحدة، أما الأغنية الوحيدة غير الإنكليزية فكانت "آفا ماريا".
وقلت لنفسي وأنا أرى الصور القديمة: كم كانت جميلة تلك الشابة الفلمنكية التي ولدت في فترة ما بين الحربين. وكنت أرى الصور تمر أمامي وأتأمل ما تفعله بنا الأيام، وتذكرت قول المعري:
وتأكلنا أيامنا فكأنما ** تمر بنا الساعات وهي أسود
وكان كلما انتهى عرض للصور وقف أحد أحفادها لينعاها، لكن تصوروا أن أول صورة لها تعود لعام 1928 بعد ولادتها بعدة أشهر، أي أنها كانت من مواليد 1928 وكانت لا تزال حية وعفيّة حتى عدة أسابيع مرت.
وتذكرت أن والدي كان من مواليد 1937، ولكنه مات منذ سنوات طويلة، طبعاً هي أعمار كما نقول، ولكنها مجرد مقارنة خطرت ببالي، ونعم بالله بالطبع.
وأتذكر أنني عندما عرفت من المستشرق الألماني شتيفان فيلد أنه من مواليد 1937 أيضاً تعجبت جداً؛ لأنه يبدو أصغر من ذلك بكثير، فأخبرته بتاريخ ميلاد والدي، وقلت له: "إن والدي لو كان حياً كان ليبدو الآن كوالدك".
فضحك وقال: "إن الموضوع مرتبط قبل أي شيء آخر بالطقس؛ لأن الجو المصري الحار المشمس طوال السنة يبدو وكأنه (يحنط) الأجساد الحية، بينما هو ألماني شمالي يعيش في جو ممطر مشبع بالمياه التي تجعل الأجساد (ريانة) حتى تبدو وكأنها أصغر من عمرها الحقيقي".
وهكذا فيما أظن كانت جارتي الفلمنكية، ولولا آلام المفاصل لبدت أصغر كثيراً من عمرها، خاصة أنها كما سبق تحمل روحاً منفتحة ومحبة للبشر وتنوعهم.
وهذه سمة تجدها غالبة على من نجَوا من الحرب العالمية الثانية، فأولئك الذين رأوا كمية الشر المهولة التي يمكن للبشر أن يجترحوها، وجدوا عن تجربة أن الخير أولى وأبقى.
وتجلت إنسانيتها تلك في الأشياء الصغيرة التي تقرب البشر من بعضهم البعض، عندما سكنت في الشقة التي تعلو شقتها ورغم الضجة التي يحدثها الولدان، إلا أنها لم تشكُ قط.
وعندما عرفت أنني أتكلم الألمانية وما زلت أتعلم الفرنسية فوجئت بها تكلمني بألمانية طليقة، ولم يكن أي من السكان القدامى يعرف أنها تتكلم الألمانية!
وكانت تحتفظ لنا بالخطابات والطرود إذا غبنا، وتحضرها لنا في المساء. وعندما وجدت ابناً لي على باب البيت ينتظرني بسبب تأخري، استضافته عندها وبعد أن شربا العصائر أرته صور أحفادها الذين يزورونها في المناسبات، ولذا كان ابني يعدها صديقة له.
وكنت إذا قابلتها بعض التبضع أحمل شنطتها على السلالم حتى باب المصعد ونتحدث قليلاً عن أي شيء، حتى إذا وصلنا إلى الدور الرابع أفتح لها باب المصعد فتتمنى لي يوماً سعيداً، وقد تكرر هذا مرات لا يحدها حصر.
ورغم تقدمها في العمر كانت تصمم على أن تعيش بمفردها، وألا تكون حِملاً على الآخرين، وفي الفترة الأخيرة عندما اختفت لعدة أسابيع عرفت أنها تقيم عند ابنتها الكبرى وتنتظر.
وعندما وجدت ورقة النعي معلقة على باب المصعد قررت اقتطاع ساعتين من وقتي لوداعها، ركبت أتوبيساً ثم مترو ثم ترام ومشيت لدقائق حتى أصل المقابر خارج بروكسل، والحقيقة لم أتحمل مشاق الذهاب إلا احتراماً وحباً لهذه السيدة الفلمنكية وروحها الطيبة المتفتحة.
لم يتكلم إلا أحفاد ثلاثة فقط، ولد وبنتان، كان الولد متماسكاً وألقى بعض الفكاهات التي حدثت بينه وبين جدته فأضحكنا، أما البنتان فقد تحدثتا بالدموع التي أضاعت الحروف وذهبت بالمعاني.
لكن الغريب فعلاً أنهم تكلموا جميعاً بالفرنسية رغم أن الفقيدة فلمنكية والمقبرة في الجزء الفلمنكي من بروكسل، بعد أندرلخت، وهو جزء يتحدث بالهولندية فقط ويصر على ذلك، فالفقيدة واسمها (إيفيلين) فلمنكية تزوجت مسيو (روجيه) الفرانكفوني وأنجبا أبناءاً وأحفاداً فرانكفونيين، فلما ماتت أرجعوها للجزء الفلمنكي مرة أخرى ليدفنوها!
وهذا يشبه بالضبط أن تكون قاهرياً أو سكندرياً وتتزوج صعيدية ذات طلة فرعونية وتنجب منها أولاداً قاهريين أو سكندريين، فلما يحين الأجل ترجعها للصعيد مرة أخرى وتدفنها هناك!
ولم توجد إلا ثلاث لفات للصور وثلاث خطب شبابية قصيرة فلم يستغرق الأمر أكثر من نصف ساعة بل أقل، وبعدها أمرنا المنظمون أن نقف صفاً لنمر بالتابوت ونودع الفقيدة.
وكان بجوار التابوت الخشبي المقفل طبق رخامي كبير به أوراق ورود حمراء، وكل من يقترب من التابوت يأخذ وريقة ورد ويضعها عليه وينقر على التابوت مودعاً، ففعلت كما فعلوا، وعندما خرجت وجدت الأبناء والأحفاد رجالاً ونساءً يقفون صفاً كما لدينا بالضبط ويتلقون التعازي تسليماً وعناقاً.
بالطبع كان حضوري مفاجأة للجميع؛ لأنني كنت المسلم الوحيد وربما الأجنبي الوحيد في تلك الجنازة الصغيرة، ولكنهم كانوا يعرفونني بالطبع فسلمت عليهم وانصرفت قبل أن توضع في قبرها، فسلام عليك يا سيدتي حيث كنت!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.