يجلسُ وحيداً في المقهى، يشرب الشاي في مشهدٍ يشبه صوت فيروز الذي يسيطر -منذ ولدتُ- على الساعات الأولى من البث الإذاعي الصباحي؛ يشربه وكأن هذه الساعة من النهار مخصصة لشرب الشاي فقط ويجب على الجميع أن يترك ما بين يدَيه ويشاركه في فعله هذا.
أشعرُ بأنني طفلة صغيرة لمحَت معلمها المفضّل في آخر الشارع بعد درجة سيئة في مادته، يبلل معطفي الحرج والذنب والندم المنهمرة من سمائي التي امتلأت بالغيوم فجأةً لرؤياه.
أتمنى لو كانت مدينتي العتيقة كالمدن الحديثة؛ بطبقات وطبقات من الجسور والممرات والأنفاق لأغيّر طريقي متجنبةً لقاء سيتركني غارقة لأسابيع في الندم، لكنني أجد نفسي في شارع ضيق باتجاهين، نتشارك أحد أرصفته.
أمرُّ بجانب عربته وألمسها بأطراف أصابعي بعاطفة أكبر من تلك التي أمنحها في قُبلة وأتذكرُ ثقل خطواتي قبل خمس عشرة سنة وكيف استندت إلى العربة ذاتها؛ لألتقط أنفاسي قبل أن أدخل مبنى الصحيفة المحلية الوحيدة في المدينة، عبارة عن طابقين في ثانيهما قابلت رئيس التحرير الذي كان لطيفاً ومهذباً، وتحدث عن أهمية هذه الخطوة بالنسبة لي، وبأنه يجب عليّ أن أغتنم هذه الفرصة التي يحلم بها كثيرون، ثم استدعى السكرتيرة وطلب منها أن توصلني إلى المدعو بلال.
كانت غرفة بلال في الطابق الأول، وقفت السكرتيرة وأشارت إلى آخر غرفة في الردهة وقالت هذه غرفة الأستاذ بلال، دخلتُ الغرفة ووجدت المكتب يغص بالأوراق وبعشرات من الصحف بعضها باللغة الإنكليزية، ثم التفتّ إلى الوراء ووجدت رجلاً في منتصف الأربعينات يجلس على طاولة صغيرة ويمسك بقرص فلافل، يأكله ثم يقضم قطعة من الخبز الطازج، كأنما يريد أن يشعر بطعم كل منهما على حدة.
في الأيام التالية وقف الأستاذ بلال، كبير المحررين في الصحيفة، يضرب الطاولة بقبضته ويصرخ في وجهي الجملة التي سأسمعها منه لسنين قادمة: "قوّي قلبك يا ندى". تكررت صداماتنا، مما جعلني أكسب ثقته بسرعة أكبر، ففي النهاية لا أحد يحب الصحفي المطيع!
وفي يوم أحد ماطر عُدت من المهمة المكلفة لأعلم الخبر السار: "الأستاذ بلال رئيس التحرير الجديد". رفض الأستاذ بلال أن ينقل مكتبه إلى الطابق الثاني؛ لكي يكون أقرب من المحررين ولعب دوره ببراعة واحتراف؛ حيث لم تكن المهمات المكلف بها جديدة عليه؛ لأنه يقوم بها منذ سنوات طويلة، لكن تحت مسمى إداري آخر.
كان دائماً ما يعطي بُعداً جديداً، أعمق وأغنى لكل مادة أكتبها وأعرضها عليه، ويُشير إلى تفاصيل كثيرة غابت عن ناظري.
بعد أسبوع من تعيينه جاء حسام بفكرة لتحقيق جديد ودُعيت أنا للمناقشة، جلسنا مع الأستاذ بلال وآخرين، وبالرد المعتاد "قوّي قلبك يا ندى" قوبلت أولى ملاحظاتي المترددة. ذهب المجتمعون وبقي ثلاثتنا في الغرفة، وقف الأستاذ بلال ينفث الدخان ويطفئ سيجارته ليربت على كتف حسام، ويقول: "أنا معك يا فتى لا تخشى شيئاً".
باشر حسام بإعداد تحقيقه ومنذ الخطوات الأولى تعثر بأحجار كبيرة جعلته يهوي من عالم الصحافة إلى مدرسة الحي المجاورة لمنزله.
لساعاتٍ طويلة كنت أقف في الردهة وأستمع برعب إلى صراخ الأستاذ بلال على الهاتف وأراقب شحوب وجهه وخيبة الأمل التي بدأت تسيطر على ملامحه الخمسينية.
العبثية وجدت طريقها إليه، فبتّ أحل محله في الاجتماعات وفي مواقع اتخاذ القرار.
لم يدُم الأمر طويلاً قبل مجيء خبر استقالته المتوقع؛ ليختفي بعدها من طابق الصحيفة الأول ويتجه نحو التدريس في الجامعة؛ حيث لم يتمتع بشعبية كبيرة بين الطلاب بحسب ابنة إحدى الزميلات.
دام الحديث عن انسحابه لبعض الوقت؛ بعضهم وجد في قراره استعجالاً واستسلاماً وبعضهم الآخر وجده صواباً، أما أنا فقد بقيت صورته وهو ينظر في عيني حسام ويطمئنه عالقةً في ذهني تمنعني من إبداء أي رأي.
كان من الطبيعي أن أحلّ محله فقد توليت تأدية مهامه عنه في الفترة الأخيرة من عمله واليوم أمرّ أمامه، وأخجل من قلبي الضعيف الذي قلب الصحيفة المحلية الوحيدة في المدينة إلى وجبة مملة من الأخبار المعلّبة والمعدّة مسبقاً دون أي نكهات وجهود ذاتية.
تحولت الصحيفة إلى مكان للتسكّع يقضي فيه الأشخاص وقتاً لكسب عيشهم لا يجد فيها أمثال حسام مكاناً لهم فيها.
القرار الوحيد الكبير الذي اتخذته فيها هو نقل المكتب إلى الطابق الثاني؛ لتصبح زيارات المحررين بموعد مسبق مع السكرتيرة.
اصطدمت نظراتنا وسرعان ما أشاح بوجهه بعيداً عني كأنني وجهٌ غريب لم يلتقِ به يوماً، لاحظت أنه لا جريدة على طاولته، وبحركة آلية، خرجتُ فيها عن نطاق سيطرتي، التفت إليه أمد يدي وألقي التحية فقد فضلت الندم شعوراً على التجاهل!
وقف ضاحكاً يرد التحية:
– كيف حال قلبك الضعيف يا ندى؟ إنه السبب في خطواتك الحمقاء المترددة التي أصابتك منذ لمحتني، أليس كذلك؟
أرى أن نصيحتي لك قد جاءت بنتيجة، فبفضلها تلقين التحية عليّ اليوم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.