أي طفلي

فمن اليوم الذي تفقد فيه لذة نقاشهم ستتمسّك بأشجار اللّيل المستقطرة من هسيس النّبات وزفرات الصّراصير ونقيق الضّفادع، نعم يومها لن يُرهقك عدم اللامبالاة بهم، تفنن في نسيان تلك النقاشات الفذة، وغامِر في البحث عن ماهية الوجود من جديد، سترقص على الأنغام الهندية والتأوّهات الفارسية فتستقبل بكل حبٍ كلمات لويس بورخيس.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/22 الساعة 02:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/22 الساعة 02:57 بتوقيت غرينتش

أي طفلي.. كُلّما أمعنت النّظر في مسائل ما الكون؟ وما الوجود؟ لتصل إلى ما المجتمع؟ تعرّى أمام عقلك السّؤال كاشفاً لَكَ السّمينَ والغثّ قبل الإطناب، وهذه ميزة العقل في الإنسان، فإن الأسئلة الجُهنّمية التي نأخُذها بدون سابق إمعان تُبطل المسألة التي تُطرح من الأساس وتقع في خطأ الكذبة التي لا يتحملها العقل إذا عُرضت على القارئ لتبقى في المُبهم الذي يخلطُ الأمور ويتساءل لعرض عضلاته الفكرية الفارغة التي لا أساس لها من الصّحة.

وإن التساؤل في اللاشيء يُحدثُ تلك الألفاظ الرّكيكة.. وكي لا ننسى فإن هذا الفن في طرح الفكرة سابقاً وإلى يومنا هذا وُجد مع "المُناظرات" وهذه المُناظرات قائمة على إبراز الفكرة التي تحملُ الأسئلة التي تشغل العقل والعميقة ليست المُفرغة منها ثم الحُجج الدّامغة والنّقاشُ حولها؛ لنتوصّل إلى الزُّبد.

كُن يا طفلي، كـ"البَلْتَعِ" ولا تكُن كـ"البَلْتَعَانِي"، والفرقُ بين المُفردتين صارخٌ، فالمُفردة الأولى تَعني الحَاذق بكل شيء، أما الثانية فهي تعني المُتطرّف، المُتكسّب وليس عندهُ شيء، بل كن أيضاً كـ"البَلْتَعِي"، أي: اللّسنُ الفصيح ولا تكُن كـ"المُتَبَلْتِعي"، أي: الذي يُقذعُ في الشيء أو الذي التوى لسانه.

فالمقصودُ من كل هذا الشّرح يا بُني أن تكون كالرَعراعُ اليافعُ، كحسن الاعتدال ولا تكُن كالرّاثِعِ أي شديد الطّمع، فاسمع جيداً وتحلّ باللُّطف وبلّغ رسالتك التي تُريدُ طرحها دون عجرفةٍ وتسرّع وإن فارغُ العقل، لا زاد ولا زوّاد..
واجه النّاس بقول الشّافعي:
يُخَاطِبني السَّفيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ ** فأكرهُ أن أكونَ له مجيبا
يزيدُ سفاهةً فأزيدُ حلماً ** كعودٍ زادهُ الإحراقُ طيبا

حين تسأل لا تتعمّق قبل أن يكون لك زاد معرفي وأدب الطّرح والشّرح، واربط أفكارك بحُججها وقبل الحجج يوجد الإمعان، وأخيراً كُن كأبيات الشعر القائلة:
"إذا ما حذرت الأمر فاجعل إزاءهُ ** رجوعا إلى ربّ يقيك المحاذرا
ولا تخش أمرا أنت فيه مفوّض ** إلى اللّه غايات له ومصادرا
وكن للذي يقضي به الله صيانة ** وإن لم تُوافقه الأماني شاكرا

ثم سلاماً لك يا من جعلت الحياة لك فكرة سليمة لا إنكاراً.
عندما يظفر القلب بضالته، سيجد نفسه في لعبة العُمق مع الأسماء، ولكّن شقاء لوعة التذكر تُغنيك عن التطلّع في ماهية البشر الذين لا يكلّون من تكفير الفكرة دون قراءتها؛ لذلك استوعب جهلهم يا طفلي.

فمن اليوم الذي تفقد فيه لذة نقاشهم ستتمسّك بأشجار اللّيل المستقطرة من هسيس النّبات وزفرات الصّراصير ونقيق الضّفادع، نعم يومها لن يُرهقك عدم اللامبالاة بهم، تفنن في نسيان تلك النقاشات الفذة، وغامِر في البحث عن ماهية الوجود من جديد، سترقص على الأنغام الهندية والتأوّهات الفارسية فتستقبل بكل حبٍ كلمات لويس بورخيس.

لن تكتفي بهذا النسيان فقط، رغم ذلك هو الحل الذي يمنعُ روحك من التصعيد نحو أفكار بعض البشرية الفارغة.

إن فكرة نسيان أمرهم أمرٌ صعب، لكنّه حل لتسهيل دورة الدم. لا شيء ملموس لماذا ترهقُ هذه الروح التي احتوت أفكارك؟ لم تخال أنك حين تنسى ستفقد الذاكرة، بينما النسيان نعمة وليست نقمة؟ وإذا سلّمت حقاً بأنك تسعى وراء النسيان ورفض النّسيان أن ينسى، ألن تضجر؟

صحيح أن الكل ضجرٌ وأن الضجر يضجر من ضجره، لكن لا حل غير نسيان قذفهم لك؛ لأنك تبحث دائماً لتعرف من أنت في هذا الوجود لأنك لست نكرة.

أن ترتدّ على صاحب الفكرة، ذاك الذي يحمل اسماً رائعاً تجده يُزايد عليك، ستضحك بوحشية، لمَ تتشابه أفكارهم حتى في الكذب؟ لا توجد فكرة في القاموس غير أفكارٍ تستحق أن تبقى في المُخيلة خلدها التاريخ؛ لأنها بحثت في الوجود، أما الباقي هي أسماء عبثية حبلى بالبشاعة؛ لذلك يجب أن ننسى حتى عباراتهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد