عندما يصنع الأيتام حضارةَ أُمة

ارتبط مفهوم اليُتم عند الكثيرين بالفقر والمعاناة والحرمان وغموض مستقبل اليتامى بعد فقدان والديهم أو أحدهم، ذلك أنه بات جلياً أن اليتيم ما لم يتداركه أحد المقربين أو المؤسسات المعنية بالتربية والعناية والمتابعة فإنه ربما كان عُرضة للضياع والانحراف وغير ذلك من المزالق التي يتعرض لها الأيتام ما لم تكفلهم اليد الحانية والراعية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/18 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/18 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش

ارتبط مفهوم اليُتم عند الكثيرين بالفقر والمعاناة والحرمان وغموض مستقبل اليتامى بعد فقدان والديهم أو أحدهم، ذلك أنه بات جلياً أن اليتيم ما لم يتداركه أحد المقربين أو المؤسسات المعنية بالتربية والعناية والمتابعة فإنه ربما كان عُرضة للضياع والانحراف وغير ذلك من المزالق التي يتعرض لها الأيتام ما لم تكفلهم اليد الحانية والراعية.

ولكن على النقيض من ذلك، نجد أنه في تراثنا وتاريخنا الكثير من الأيتام – وبسبب رعاية أمهاتهم والمقربين منهم لهم – استطاعوا أن يكونوا أرقاماً صعبة كلّ في مجاله وفي العلوم التي أقبلوا عليها حتى تفوقوا على أقرانهم، وكانوا سبباً في صناعة مجد أمّتهم وتقدمها في مجالات عدة، وكان منهم سفيان الثوري، عبد الرحمن الداخل، الشافعي، أحمد بن حنبل، البخاري، المتنبي، أبو حامد الغزالي والجوزي وهم من المتقدمين في سجل التاريخ، أما من المتأخرين فمنهم السعدي وأبو الحسن الندوي والشاعر حافظ إبراهيم والشيخ أحمد ياسين.

وُلد الإمام سفيان الثوري عام 97 هجري في الكوفة، وتوفّي والده وكان دون التاسعة من عمره، فوجهته والدته لتلقّي العلم والحديث وكانت تغزل بمغزلها لتعيل نفسها وولدها حتى يتمكن من متابعة دروس العلم ولا ينقطع عنها، حتى صار عالم زمانه وكان يصفه ابن حنبل فيقول: "هو الإمام لا يتقدم عليه أحد".

ومنهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بالداخل وقد وُلد سنة 113 هجري ومات والده وهو صغير، وكان الداخل ممن عاصر نهاية دولة بني أمية عندما سقطت دمشق بيد العباسيين الذين ارتكبوا المجازر بحق بني أمية، فهام عبد الرحمن على وجهه باحثاً عن النجاة من سيوف جند العباسيين فهرب من الشام لمصر ومنها إلى المغرب قبل أن ينتقل للأندلس، ويؤسس فيها إمارة أموية توارثها أحفاده حتى أصبحت تضاهي دولة بني العباس في التقدم والازدهار.

كما أن منهم الإمام الشافعي فقد وُلد سنة 150 هجري في غزة، ولم تعانق عيناه أباه، فنشأ على يدَي أمه حتى حفظ القرآن والموطأ والفصاحة ثم تنقّل بين المدن الإسلامية ليسمع من شيوخها حتى صار له مذهبه الخاص، وقد وصفه علماء زمانه بمجدد القرن الثاني الهجري.

أما أحمد بن حنبل فقد كان مولده سنة 164 هجري، وتوفي والده بعد ولادته بعدة سنين، فكان والدته تحثّه على حضور حلقات العلم في مساجد بغداد التي كانت حاضرة الدنيا في العلم والحديث آنذاك، وتنقل بين المدن الإسلامية؛ ليسمع من شيوخها حتى أصبح إمام المحدثين في عصره وانتشر مذهبه بين الناس.

ومنهم أيضاً البخاري المولود عام 194 هجري، وقد توفّي والده وهو صغير فتولت والدته رعايته وكانت سبباً لشغفه بعلوم الحديث حتى جمع الحديث عن علماء زمانه ليجمعه في كتاب واحد سمّاه صحيح البخاري، فكان أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة.

وُلد أبو حامد الغزالي عام 450 هجري في طوس وفقد والده صبياً فتربّى في إحدى المدارس الخيرية فتعلم فيها ونشأ وتلقى العلم عن كبار العلم في زمانه حتى كبر وأصبح من كبار المفكرين، وله في المكتبة الإسلامية العديد من المؤلفات حتى أصبح كتابه "إحياء علوم الدين" من أمهات كتب المكتبة الإسلامية.

أما الإمام ابن الجوزي فقد وُلد عام 511 هجري وتوفي والده وعمره ثلاث سنوات، وبدأ بتلقّي العلم في سن صغيرة ونقل العلوم عن علماء زمانه ذلك أن عمّته تولت رعايته صغيراً حتى كبر وبدأ بالوعظ والتأليف مبكراً، حتى قيل إنه قد كتب بيده مائتي كتاب وكان ذا صيت في الوعظ فكان يحضر مجالسه الملوك والوزراء والخلفاء.

ومن الشعراء أبو الطيب المتنبي، وقد وُلد سنة 303 هجري في الكوفة وتعلم الفصاحة والبلاغة من بادية العرب، وكان فارساً وشاعراً طغى بصيتِه على شعراء زمانه.

ومنهم الشيخ السعدي الذي رأت عيناه الدنيا في القصيم سنة 1890م وتوفّي والداه وهو صغير، فتولى أمره المحيطون به حتى حفظ القرآن وجلس للتدريس وعمره 23 سنة، وهو صاحب التفسير المشهور والمعروف بتفسير السعدي.

وُلد الشاعر حافظ إبراهيم سنة 1870 ميلادية، وهو شاعر النيل وأحد رواد عصر النهضة الشعرية العربية. توفّي والده وهو في الرابعة من عمره، وعرف الشعر في طفولته قراءةً وتذوقاً وكتابةً ورغم مرور قرن على أشعاره فإن مَن يقرأ شعره الآن يشعر وكأنه كتبه هذه اللحظة حتى لُقب بشاعر النيل.

أما الإمام أبو الحسن الندوي وقد وُلد عام 1332 هجري وقد توفي والده وعمره 9 سنين فتربى على يدَي أمه وأخيه الأكبر فتعلم منهم القرآن واللغات العربية والأوردية والفارسية والإنكليزية، وهو صاحب أشهر كتاب ألف في المكتبة الإسلامية وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"، وقد بلغت مجموع مؤلفاته وترجماته 700 عنوان، منها 177 عنواناً بالعربية وترجمت العديد من مؤلفاته إلى الإنكليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها.

ومنهم الشيخ أحمد ياسين وقد وُلد عام 1938م وتوفّي والده وهو في سن الخامسة، ثم لجأ مع عائلته إلى غزة عام 1948م، وفي العام 1952م تعرض لإصابة نتج عنها شلل في جميع أطرافه، ولكن رغم ذلك تابع تعليمه الدراسي وعمل مدرساً وخطيباً في مساجد غزة، وبدأ مسيرته النضالية ضد الاحتلال من خلال جهوده المستمرة حتى أسس حركة حماس في العام 1987م قبيل اعتقاله عام 1989م، والحكم عليه بالسجن مدى الحياة وبقي في السجن حتى تم الإفراج عنه في العام 1997م ضمن اتفاقية مع الأردن. استشهد الشيخ أحمد ياسين في 22 مارس/آذار 2004م بغارة إسرائيلية أثناء توجّهه لبيته بعد أدائه لصلاة الفجر.

وعليه، فإن كثيراً من الأيتام لديهم طاقاتٍ كامنة قادرة على صناعة المستحيل إذا ما تم استغلالها وتوجيهها نحو الإبداع والابتكار فإذا ما وُجِد المربّي واليد الحانية أو المؤسسة الراعية، كان بالإمكان الاستثمار في إمكانات اليتيم واكتشاف مكامن قدراته وتطويرها وإعداده لصناعة حضارة ومجد أُمة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد