في الطريق إلى جثة أبي.. الطيب والشرس والقبيح

نتسلم الجثمان نحمله لنقف به في طابور الجثامين الطويل وذويها منتظري التشريح وتصاريح الدفن، يخرج من البنايات الصغيرة أطفال ورجال ونساء يحملون الثلج المعد في بيوتهم لنضعه فوق الأجساد الملقاة على الأرض حفظاً لها من التحلل بفعل الحرارة المرتفعة، ثم تنهال علينا ألواح الثلوج قادمة من تجار الأسماك واللحوم تحيل الأرض المجاورة للمشرحة إلى ثلاجة ملحقة بها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/16 الساعة 07:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/16 الساعة 07:38 بتوقيت غرينتش

يتصل مدفوعاً بسُعاره الجنسي يُسمعني ما يشبه نباح كلابي في موسم التزاوج، ذلك بعد أن وصل لهاتفي عبر صفحتي الشخصية والذي نشرته عليها بكامل إرادة منّي مصحوباً بصورة.

المنطق يقول: إن الخطأ عليّ، فنحن شعب يؤمن أن كل ضحية للتحرش هي جانية كانت سبباً في إشعال شهوة متحرشها.

نعم أعلنت رقم هاتفي، لكنه كان مصحوباً بصورة لأبي أناشد مَن يعرف أي معلومة تدلني عليه أن يتصل بي، كان ذلك صباح اليوم التالي لإغراق أرض رابعة العدوية بالدماء، وبعد علمنا بأن رصاصة اخترقت رأس سَنَدنا بالحياة أردَت روحه إلى بارئها وتسلمنا متعلقاته بينما اختفى جثمانه!

لنبدأ رحلة بحث عنه بين الجثامين المتفحمة وثلاجات المشارح، نفتش عن أي علامة بكل جسد علّها تخبرنا أنه هو، وعلى قِصَر عمر الرحلة الزمني – من صباح الخميس حتى قبيل فجر الجمعة- إلا أنها كانت قاسية طويلةً كاشفةً فاضحةً لكل صنوف مجتمعنا من خبيث وطيب ومسخ.

المتحرش.. فصيل كبير ظل معي إلى أن اضطررت لتغيير رقمي بعد استنفادي لكل الألفاظ الخارجة والتهديد والوعيد بالدنيا والآخرة، حتى أخبرني أحدهم أن متحرشاً آخر أهدى رقم هاتفي لمجموعة على موقع الفيسبوك تُعنى بتقديم تسهيلات تحرش للمستعرين جنسياً المجتمعين فيها، لم أجد من يومها أي نظرية نفسية يمكنها أن تحلل فعلته!

ملك الأكشن.. تتوالى الاتصالات من صنفه كلها تحمل نفس السمات، صوت خافت، تحفظ على ذكر اسمه، توضيح لعلاقته بشخصية نافذة في جهاز سيادي، مناشدات بحفظ سرية ما سيقول، يخبرني أن أبي ما زال على قيد الحياة ووفاته شائعة بينما هو محتجز بجهاز سيادي ولا يحمل هوية، وأحدهم أضاف أنه فقد ذاكرته وعليّ البحث عن واسطة لإخراجه سريعاً.

الباحث عن ضوء.. تنهال الرسائل، كلها تحمل أنباء عن أحدهم الذي وجد جثمان أبي بمشفى متبسماً ينظر للسماء ويؤكد أحدهم، وأحدهم كثير أنه تأكد بنفسه، مصادفة كان أبي مديراً سابقاً لهذا المشفى، هاتفت المدير الحالي وبعض العاملين هناك، كلهم أكدوا أن الجثمان لم يصل وما المعلومة إلا خيالات من صاحبها الأصلي عضو مجلس الشعب السابق الباحث عن حضور، ولو بخبر مكذوب يضمن المشاركة عبر فضاء التواصل الاجتماعي.

المتاجر.. بينما نفتش في الجثامين يناقش هو ورفاقه آلية استغلال صور الجثامين ومشاهد الدم والعلاقات الطيبة للأرواح الصاعدة إلى بارئها لجذب أكبر تعاطف مع القضية وإقناع المجتمع بالسير على طريقهم.

المرأة الكيّادة.. نموذج طالما تعرضت له الكتابات والمشاهد الدرامية، بينما عايشت أبناءها في واقع لم تصل له خيالات المؤلفين حيث تتوالى اتصالات الأنجال تسمعني رائعة فناني المرحلة "تسلم الأيادي".

الدبّة التي قتلت صاحبها.. تتصل بنا بمعدل تحركنا بين جثمان وجثمان بجواره لتسأل نفس السؤال: هل وجدتموه؟ هل بحثتم جيداً؟ هل دققتم بالجثامين معقول لم تجدوه إلى الآن، تنفد طاقة الهاتف يتعذر وصولي لمن يبحث معنا فأصرخ بلا وعي: "ولو لقيناه هنخبّي ليه خايفين من الحسد".

ولأنها رحلة كاشفة عادل كشفها كان لا بد فيها من مرور على نبت بلادنا الطيب وصنوف ثماره الوارفة، ضابط شرطة يتابع بحثي لحظة بلحظة يحدّث معي أماكن تواجد الجثامين ويتواصل مع إدارتها ليخفف عنا ما نعانيه من تشتت في أرجاء القاهرة الكبرى.

مجهول يتصل يبلغني أن شخصاً يشبه صورة أبي ألقته سيارة بصندوق في شارع جانبي بجوار مشرحة زينهم، ويرافقني على الهاتف حتى أصل له، أجده في حماية أهالي المنطقة يطلبون منا إثباتاً يحمل صورته خوفاً من أن نكون تجار أعضاء بشرية.

نتسلم الجثمان نحمله لنقف به في طابور الجثامين الطويل وذويها منتظري التشريح وتصاريح الدفن، يخرج من البنايات الصغيرة أطفال ورجال ونساء يحملون الثلج المعد في بيوتهم لنضعه فوق الأجساد الملقاة على الأرض حفظاً لها من التحلل بفعل الحرارة المرتفعة، ثم تنهال علينا ألواح الثلوج قادمة من تجار الأسماك واللحوم تحيل الأرض المجاورة للمشرحة إلى ثلاجة ملحقة بها.

تفتح أبواب البنايات لنا لنرتاح على أدراجها ونشرب المياه الباردة ونوصل هواتفنا بالكهرباء، صاحب المقهى يشاركنا بمقاعد زبائنه، مسّاحات الأرض تخرج من البيوت والمحلات التجارية مصحوبة بشباب ورجال يجتهدون في تخفيف الدماء التي تحاوطنا، معطرات الجو تحيطنا، الفورمالين ينثر فوق الجثامين، نساء تصبرنا، أحدهم يهديني قطعة شوكولاتة لتحفظ السكر في جسمي، امرأة طيبة تعرض عليّ النوم ببيتها حتى يقترب دور جثمان أبي في الطابور، ثم صاحب شركة يهدينا سيارته المثلجة لنضع الجثامين بها تحفظها حتى يتم التشريح.

أخيراً أتى دور أبي في التشريح ولم يتبقّ سوى تصريح الدفن، لكن موظف التصاريح اختفى مبرراً اختفاءه أن عدد الجثث فاق طاقته ومن حقه أن يرتاح قليلاً، أو يأتي زميله يتسلم منه عمله وبينما ننتظره كان يتفاوض معنا سائق سيارة نقل الموتى هندفع كام في المشوار!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد