محمد المهدي عاكف، أسطورة الحركة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين، التي يجب أن تُسجّل وتُخلّد في سجلاتها حتى تقرأها الأجيال القادمة، فتعلم أن آباءهم وأجدادهم وأسلافهم كانوا رجالاً، لا يقبلون الضيم، ولا ينزلون على رأي الفَسَدة، ولا يعطون الدنيّة في دينهم.
ارتبط بجماعة الإخوان المسلمين وهو ابن الثانية عشرة من العمر؛ ليقضي بذلك ما يقارب الثمانين عاماً من حياته فيها، وهو رقم قياسي أسطوري أظن أنه لم يسبق إليه أحد، ولن يلحق به أحد.
التحق بكلية الهندسة ثم تركها والتحق بالمعهد العالي للتربية الرياضية وذلك بعد إشارة من الإمام البنا بأهمية أن يكون للجماعة أفراد في كل كلية ومعهد، ولم يكن حينها للإخوان أحد في معهد التربية الرياضية، وهذه صورة أسطورية أخرى في طاعة المسؤول والأمير، وتقديم مصلحة الجماعة والفكرة على مصلحة الفرد.
حكم عليه عبد الناصر بالإعدام مع رفاقه في عام 1954، إلا أنه ولما جاء الدور عليه في قائمة الإعدامات وقبل لحظات من التنفيذ تم تخفيف الحكم إلى المؤبد، وقضى عشرين عاماً في السجون، حتى أُفرج عنه عام 1974.
سافر بعد ذلك إلى خارج مصر، وقضى زمناً هنالك، وكان له دور بارز في تثبيت أركان العمل العالمي للجماعة والتنظيم الدولي لها، حتى إن السلطات المصرية في عهد مبارك حاكمته في إحدى المحاكمات العسكرية على أنه مسؤول التنظيم الدولي للجماعة.
عاد بعد ذلك لمصر، وأصبح عضواً في مكتب الإرشاد منذ الثمانينات، ثم انتُخب مرشداً عامّاً بعد وفاة المستشار مأمون الهضيبي.
لما تم اختياره مرشداً عامّاً، كانت ولايته فتحاً، وأحدثت حراكاً وتغييراً لم يحدث من قبل في داخل الجماعة وفي الحياة السياسية المصرية كلها.
كان قوياً في كلمة الحق إلى الحد الذي يراه البعض تهوراً، كما كان قوياً في أخذ المبادرة والفعل.
في بداية ولايته لمكتب الإرشاد نزل الإخوان بالمظاهرات المطالِبة بالإصلاح، فغدا ما بعد هذا الحراك غير ما قبله، ولا بد أن يؤكد التأريخ السياسي لهذه المرحلة على هذا الحدث الذي أراه البادرة الأولى لثورة التغيير في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني.
ثم دخل الإخوان في عهده الانتخابات البرلمانية بقوة، وقاربوا على المائة نائب، وكانت الهزة الكبيرة التي حدثت في الحياة البرلمانية والسياسية المصرية.
خرج الإخوان في عهده بمشروعهم للإصلاح، والذي كان دستوراً حزبياً خرجوا به للعلن، ليعلم الجميع رأيهم الواضح في كافة المسائل السياسية التي تثير اللغط والريبة، وكانت تلك خطوة قوية رائدة.
بادر الإخوان في عهده بتأسيس الجبهة الوطنية للتغيير بالشراكة مع الدكتور محمد البرادعي بعد عودته من عمله في الوكالة الدولية للطاقة النووية، وكان الإخوان هم عصب هذه الجبهة وأغلب سوادها، ولما قدمت الجبهة مبادرتها بجمع التوقيعات من أجل التغيير، كان الإخوان هم القائمين على الأمر، وكانوا أغلب الموقعين بما نسبته في رأيي أكثر من 95%.
كان عهد الأستاذ محمد المهدي عاكف في الإخوان هو عهد المبادرة والقوة والتغيير، حتى إنني أستطيع أن أقول بكل ثقة وطمأنينة إنه هو الرجل الذي نفخ في الحياة السياسية المصرية منذ مجيئه مرشداً، وهي النفخة التي غيرت داخل الإخوان وداخل الحياة السياسية المصرية كلها.
بعد ذلك صمّم الأستاذ عاكف على أن لا يُجدد له مرشداً بعد نهاية ولايته الأولى، وهو الأمر الذي كان سابقة في تاريخ الجماعة، وقد حاول الجميع إثناءه عن ذلك، ولكنه صمم ومضى في تصميمه حتى تمّ له ما أراد، وانتخب الدكتور محمد بديع مرشداً عاماً، وسلمه الأستاذ عاكف مكانه ومسؤوليته، وعاد فرداً عادياً في صفوف الجماعة؛ ليرى الجميع بذلك أول مرشد سابق لجماعة الإخوان المسلمين ما يزال على قيد الحياة، وقد كان المرشدون من قبله لا تنتهي ولايتهم إلا بموتهم.
كان الأستاذ عاكف ولا يزال أسطورة في كل شيء.
يوماً ما كانت قضية تصعيد الدكتور عصام العريان إلى عضوية مكتب الإرشاد، وكان أعضاء مكتب الإرشاد لا يريدون ذلك بسبب الاختلاف مع الدكتور العريان في بعض مواقفه واتجاهاته، وساعتها صمّم الأستاذ عاكف على إعمال اللوائح وتصعيد الدكتور العريان، وهدد بالاستقالة، بل وتقدم بها حقيقة إلى مكتب الإرشاد، ثم انتهت المشكلة بعد ذلك وتمت تسويتها.
ويوماً حاوره أحد الصحفيين، وقد كان صحفياً مستأجراً للإيقاع بالأستاذ عاكف، وهم يعرفون جميعاً أنه قوي في كلمة الحق، بل وعنيف فيها.
ولما سأله المحاور عن رؤيته للدولة الإسلامية الواحدة، وهل يقبل حينها بأن يحكم الدولة الإسلامية ماليزي، وتقع مصر ساعتها تحت حكم هذا الماليزي الغريب.
فردّ الأستاذ عاكف برده الشهير الغاضب (طز في مصر)، وهي الكلمة العامية التي تعبر عن الاستهجان، والتي تحمل في طياتها الحقيقة والحق، فإذا كنا نتحدث عن عقيدة ودين، (فطُز) في كل الجغرافيا والحدود والأعراق.
لما قرر الإخوان الدخول للانتخابات الرئاسية عارض الأستاذ عاكف بشدة ذلك التوجه، وطلب من الإخوان أن يدعموا المرشح المستقل عنهم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، ولما أن قرر الإخوان الدخول للانتخابات بالمهندس خيرت الشاطر ثم بالدكتور محمد مرسي، لم يسع الأستاذ عاكف إلا أن يلتزم بالشورى وبقرار الجماعة.
ولما حدث الانقلاب، وبدأت المجزرة التي أحدثها العسكر ولا يزالون في صفوف الجماعة، تم اعتقال الأستاذ عاكف، وهو الشيخ الهرم الذي قارب التسعين من عمره، فما لان ولا استكان ولا باع ولا حاد، وتحدث البعض عن رفضه تقديم طلب للعسكر للإفراج الصحي عنه، وقال كما نقل الناقلون عنه (لم أفعلها في شبابي، أيليق بي أن أفعلها في شيخوختي وأفتن الشباب من ورائي).
وها هو ابن التسعين عاماً يلاقي الموت في سجون العسكر، بعدما وهن جسمه، وأصيب بالسرطان، وما عاد يأكل أو يشرب أو يتكلم، ولا يعيش إلا على المحاليل الطبية؛ لينتظر الموت في كل ساعة، وننتظر نحن بدورنا وعجزنا الخبر الذي ستتناقله وسائل الإعلام قريباً (عاجل: وفاة الأستاذ محمد المهدي عاكف المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين).
حينها سنبكي ونبكي، وسنعلم أننا خسرنا هذا الرجل، وسنحكي من بعده عن هذه الأسطورة، أسطورة عاكف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.