حينما وصلت إلى البوابة الرئيسة، استقبلني شرطي سألني عن تصريح الزيارة، أبرزت له بطاقة الهوية، فسمح لي بالدخول بعد أن شرح لي المكان الذي عليَّ قصده.
توقفت أمام باب صغير، فتحته فلاحظت على الطرف وجود أب وأم جالسَين مع مراهق منكسر، كان الأب يعِظ المراهق بلطف وحنان ظاهرَين، والأم حزينة على حافة البكاء.
استوقفني المشهد رغم قصره، كنت أتساءل في نفسي: هل كان المشهد سيتم في سجن الأحداث لو سبقته جلسات شبيهة مطولة في البيت؟! هل كان سيحدث لو كان الاثنان مع ابنهما وتابعاه بشغف وحب كما الآن؟.. إنها لو، لو ليس إلا..!
قاطعتني الأخصائية التي رتبت اللقاء، واصطحبتني إلى القاعة المخصصة للمحاضرة التي سأقدمها.. وصلت إليها، فلاحظت عدداً غير قليل، بضعة وعشرين من المراهقين والمراهقات، أغلبهم منكسرون صامتون، وثلاثة منهم يتحدثون بصخب ويضحكون كأنهم في أحد المقاهي.
حينما دخلت كنت حريصاً على السلام بحماسة ومصافحتهم بحرارة والسؤال عن حالهم.. شعرت بارتباكهم في أثناء سلامي، حتى إن بعضهم كان يهمس بالإجابة همساً، والبعض الآخر لم يُجب من الأساس واكتفى بالإيماء برأسه.
قبل شهر، جاءني اتصال مجهول لم أردَّ عليه في حينها، يبدو أن المتصل أصرَّ على أن أردَّ، استجبت في النهاية.. كان المتصل أخصائية اجتماعية من سجن الأحداث تطلب مني تقديم محاضرة للمراهقين والمراهقات عن أي موضوع أختاره.
فكرت كثيراً ومليّاً في الشريحة المستهدفة، وفي الموضوع، ووصلت إلى نتيجة مفادها أنهم يستحقون الأمل، يستحقون الإحساس بالكرامة، يستحقون مقاومة الظروف الحياتية والبيئية وقهرها، يستحقون بداية جديدة.. فكانت المحاضرة بعنوان: "بداية جديدة".
حينما بدأت تجهيز المحاضرة للعرض، لاحظت أن الشرطي المراقب، الذي لم أميِّزه في البداية؛ لأنه كان يلبس بدلة رياضية، نقل المراهقين المثيرين للفوضى من أماكنهم، ورغم رفضهم وتذمُّرهم في البداية فإنهم رضخوا في النهاية.
بعد تأكدي من وصول جميع المراهقين والمراهقات إلى القاعة، شرعت في الحديث معهم، فكان أول ما قلته "إني سعيد بالوجود معكم والحديث إليكم"، فشرع مجموعة منهم في الضحك والتعليق!
فهمت أنهم تساءلوا: كيف لي أن أسعد بالوجود في السجن مع مراهقين أحداث عليهم جُنح!
ابتسمت، وأكدت سعادتي وتشرُّفي بلقائهم، وقلت بشكل صارم: "نعم أنا سعيد بوجودي معكم؛ لأني متيقن أنكم لا تفرقون عن أي إنسان في الخارج، وأنكم مكرَّمون على كل الكائنات الحية وهذا ليس رأيي؛ بل قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم)، فأنتم إخواني الصغار، ومن واجبي اللقاء معكم لتبادل الحديث، وأن الفرق بينكم وبين الكثير من المخطئين الذين يعيشون خارج السجن أن يد العدالة لم تصل إليهم بعد"..
وتعمدت الوقوف بالقرب من المراهق الذي بدأ الضحك. عرضت بعدها نماذج لأشخاص عانوا ظروفاً صعبة في حياتهم ودخلوا السجن، ولكنهم تغيروا بعد أن غيَّروا طريقة تفكيرهم، بعد أن جعلوا العلم والتعلم جواز سفر لمستقبل مشرق.
أخبرتهم بأن التجارب القاسية عمليات صقل لمهاراتنا وإدراكاتنا للحياة. أخبرتهم بأننا يمكن أن نتعامل مع الإشكاليات وفق منهجين: الأول أن نجعلها على ظهورنا نحملها أينما ذهبنا؛ فتثقل مسيرتنا وتبطئ حركتنا، أو نجعلها تحت أقدامنا نصعد عليها لنعانق السماء، ونمتطي صهوة النجاح.
مارست حينها كل ما أتقنه في المحاضرات من توزيع النظرات، وتبديل نبرات الصوت صعوداً ونزولاً، بالإضافة إلى الأسئلة المفتوحة واختيار عشوائي للإجابات.
وفي النهاية سألتهم عن أحلامهم.. كل منهم كان له حلمه، ما إن يتحدث به حتى يضحك الجميع.. وحينما سألت أكثرَهم فوضى، في البداية شعر بالخجل، ثم قال: "ليس عندي حلم"، ومع الإصرار والتشجيع قال: "أريد أن أكون قاضياً في المستقبل"!
آخر أراد أن يكون طبيباً، وثالث ضابطاً، كنت أشجعهم وأسألهم كيف لهم أن يحققوا ذلك، حتى أعطيهم الأمل وأبيِّن لهم الطريق، وأصوِّب المسيرة، مركِّزاً على العلم والتعلم والقراءة وبناء الذات بعد تقديرها.
وحين انصرفت انصرفوا بعد السلام والشكر.
كانت تجربة جميلة مميزة، تعلمت فيها أن لا فرق بيننا نحن البشر إلا في بعض التفاصيل!
أكتب هذه الأسطر، ليس لأحكي عن هذه التجربة وحسب؛ بل لأخاطب أولئك المساجين في أقفاص أنفسهم وزنازين عقولهم، من يلقون بلائمة فشلهم على ظروفهم وأحداث حياتهم، من يبيعون أرواحهم في أسواق نخاسة الواقع المرير، ونسوا أنهم وُلدوا أحراراً، وأن الله ترك حرية اختيار طريقهم، ولم يُجبرهم حتى على الإيمان به. إن في العقل فسحة من حلم، من لم يتفسح فيه لم يذق طعم الأمل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.