الكثير ممن حولنا يزعمون أنهم يعلمون عن السعادة أكثر مما نعلم، فتراهم يجعلونها فناً ويدّعون اختزاله في بضعة أمور أو تعدادات ربما. كالعديد من المقالات التي نقرأها مثل: عشرة أمور يفعلها السعداء، عشرون طريقة لتكون سعيداً، وغيرها من المزاعم الباطلة، وأقول "الباطلة"؛ لأن السعادة من أكثر الأمور نسبية وشخصية على الإطلاق، فما يجعلك سعيداً لا يمكن أن يجعل شخصاً آخراً سعيداً بالضرورة.
السعادة شيء كالجمال تماماً، يكمن في عين الناظر، ولا يمكن أن يكون لها قانون أو نظرية ثابتة تعمَّم على الجميع.
وقد تكون السعادة من أكثر الأمور تملُّصاً ومراوغةً، حتى إننا نكاد لا نمتلكها بعض الوقت. شعور غريب بالحزن والإحباط غالباً ما يصيبنا عقب تحقيق أمور كبيرة تمنيناها وسعينا طويلاً للحصول عليها، مؤملين أنفسنا بسعادة تجعلنا نحلّق فوق السُحب. وإذ بهذه الأمور تتحقق وتمر علينا مرور الكرام، فترانا ننساها وننشد السعادة في أمور أخرى نعدو إليها ونلهث، لتُحبطنا هي الأخرى وتخيّب آمالنا، حتى لتغدو الحياة رحلة عَدْو مستمرة، لا تنتهي إلا بانقطاع النفس.
هذا الخذلان الكبير عادةً ما يدفعنا للبحث عن السعادة في تفاصيل حياتية صغيرة، علّنا نجد سعادة أدوم. والتفاصيل كثيرة كثيرة، كشرب فنجان قهوة مع عائلتك في الصباح الباكر؛ أو دعوة طيبة من عجوز ساعدتها على ركوب الباص؛ أو رائحة طعام شهية منبعثة من أحد المنازل، تخترق حاسة شمك وأنت عائد من عملك فترة الظهيرة؛ أو دفء تحس به أضلاعك المتجمدة عندما تتنزه تحت شمس ديسمبر/كانون الأول؛ أو نسمات هواء باردة تهب عليك وأنت تتقلب في فراشك عاجزاً عن النوم في حرّ يوليو/تموز؛ أو غيرها من اللذات اليومية المألوفة.
لكن، يا تُرى هل تركيزنا على هذه اللذات كافٍ ليُسعدنا؟ وهل يمكن للسعادة الحقيقية أن تكمن في هذه الأمور التي لا نقيم لها وزناً ولا اعتباراً في الأيام العادية؟ أم أنها مصابيح لا يمكن أن تضيء إلا عند اقتراب الفقد لتشعل في قلوبنا الحنين؟
لطالما شغلني هذا الأمر إلى أن وجدت أجوبة لأسئلتي في مكان ما كنتُ لأظن أن أخرج منه بأي فائدة تُرجى. إنه برنامج ستارز أون بورد! فمتابعتي حلقة أو حلقتين من هذا البرنامج كانت كافية لإنهاء هذه التساؤلات في نفسي والانتباه إلى أن هناك أموراً أهم بكثير من السعادة!
كتعريف بالبرنامج -لمن لا يعرفه- يجمع البرنامج نخبة كبيرة من المشاهير والأثرياء العرب على الباخرة نفسها ويتوقفون من حين إلى آخر لزيارة معالم أثرية وثقافية وجمالية في عدة دول. الطابع الطاغي على البرنامج ككل هو البذخ الفاحش وتقديم خدمات تتسم بالرفاهية المفرطة إلى أشخاص لا يفتقدونها أصلاً، ويبدو لك أن الجميع سعيد جداً على متن هذه الباخرة.
وفجأةً، يُطلب من نزلاء الباخرة الوقوف لحظة صمت حزناً على أرواح لاجئين قضوا في مياه المتوسط الذي تبحر فيه سفينتهم! ولاحقاً، يشارك الجميع في مزادات لجمع أموال يُتبرع بها للاجئين!
والسؤال هنا هو: ما علاقة اللاجئين بكل ما يجري؟ ولِم الحاجة إلى المزادات لجمع تبرعات إن كانت السفينة تضم مشاهير وأثرياء عرباً لو عزموا على التكافل لحل مشكلة اللاجئين لحلُّوها دون كبير جهد منهم.
علاوة على هذا، تجد أنهم في المزاد يعرضون أشياء مثل: عُود وليد توفيق الذي لحّن عليه عدداً من أغانيه الناجحة، أو نظارات لبسها سعد لمجرد في أحد كليباته التي دخلت موسوعة غينيس، أو عقد من تصميم زوجة راغب علامة. وهناك من يدفع على هذه الأشياء عشرات الآلاف من الدولارات!
إذاً، لِم الإصرار على إقحام مشكلة اللاجئين في برنامج كهذا؟! ولماذا قد يشتري أحدهم نظارات سعد لمجرد التي ارتداها في كليب "المعلم" ويدفع من أجلها 8 آلاف دولار؟!
أظن أن الجواب عن هذه الأسئلة هو: استجداء المعنى. نعم، تُقحم قصة اللاجئين لإضفاء معنى نبيل على رحلة بذخ عديمة المعنى. ودفعك آلاف الدولارات على عود أو نظارات أو عقد لا تبلغ قيمتها المادية ربع ما دفعته، هو أيضاً محاولة لاستجداء المعنى، وبعبارة أخرى: هي محاولة لإضفاء معنى على حياة عديمة المعنى عن طريق شراء مقتنيات تحمل معنى بطريقة ما!
ومن هنا، دفعني هذا البرنامج للتفكير فيما هو أهم من السعادة. فجميع من في الباخرة بدا لي سعيداً ومع ذلك تراه يبحث عن أمر آخر. فسواءً كانت السعادة موجودة في تفاصيل الحياة اليومية أو في الإنجازات الكبيرة، فهناك ما هو أهم منها بكثير، كوجود معنى لما نقوم به ولحياتنا ككل.
وهناك أيضاً أمور أخرى مهمة نبخسها حقها في لهاثنا المستمر نحو السعادة، كوجود الهدف "ووجوده أهم بكثير من تحقيقه"، ووجود الأمل بأشياء جميلة ستحدث لنا في المستقبل "حتى وإن لم تحدث".
فالمعنى والهدف والأمل وغيرها من الأمور، هي ما يبقينا على قيد الحياة عندما يكون البؤس محيطاً بنا وتكون السعادة بعيدة المنال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.