الصورة التي انطبعت في ذهني للدكتور عبد الصبور شاهين مختلفة جداً عن الصورة التي حضرت في ذهنك الآن عندما قرأت اسمه.
هذه الصورة التي تعود لأول محاضرة حضرتها له في كلية دار العلوم لم تنَل منها السنون.
كانت هذه المحاضرة صدمة لنا، وكان بعض زملاء الدفعة يسمونها "محاضرة البكيني"، وعبد الصبور شاهين في تصوري ودون مبالغة أحد ألمع اللغويين المعاصرين، وكتابه "تاريخ القرآن" من أفضل ما كتب في العربية عن هذا الموضوع!
المهم أن عبد الصبور شاهين كان به داءان وليس داءً واحداً، فلديه شعور طاغٍ بالعظمة وميل قهري للاستطراد، ولكن استطراداته كانت ممتعة، وكانت تتناسل دون هوادة؛ لذا كان يخرج من موضوعات المحاضرة ويستطرد في قفزات قد لا تستوعبها أحياناً.
على سبيل المثال في محاضرته تلك، وأظنها كانت عن "الإبدال والإعلال في الكلمة العربية"، وصل إلى الإبدال بين الدال والذال، وبدأ يبحث عن كلمات كأمثلة لها فذكر كلمتي (التوباد) و(التوباذ)، ثم قال فجأة ما معناه: "يا سلام.. هل يعرف أحدكم جبل التوباد؟"، وعرفنا أنه سيستطرد الآن فلم يجِب أحد، فانطلق ينشد:
جبل التوباد حيَّاك الحيَّا ** وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهدهِ ** ورضعناه فكُنْتَ المُرْضِعا
وَحَدَوْنا الشَّمسَ في مغربها ** وبَكَرْنا فَسَبَقْنا المَطْلِعا
وعلى سَفْحِكَ عِشْنا زَمَنا ** ورعينا غَنَمَ الأهلِ معا
هذه الربوةُ كانت مَلْعبا ** لشبابيَنا وكانت مَرْتَعا
كَمْ بنينا من حصاها أَرْبُعا ** وانثنينا فمحونا الأربُعا
وخططنا في نقا الرَّمْلِ فما ** حَفِظَ الرِّيحُ ولا الرَّمْلُ وعى!
لم تَزَلْ "ليلي "بِعَيْني طفلةً ** لم تَزِدْ عَنْ أمسِ إلا إصبعا
ما لأحجاركَ صُمَّاً كُلَّما ** هاجَ بي الشَّوقُ أَبَتْ أن تسمعا؟!
كلَّما جئتكَ راجعتُ الصِّبا ** فَأَبَتْ أيَّامُهُ أَنْ تَرْجِعا
قد يهونُ العمرُ إلا ساعةً ** وتهونُ الأرضُ إلا موضعا
وقال: "والله هذه القصيدة لأحمد شوقي بكل القيوس (جمع قيس) التي عرفها الشعر العربي"، ثم بدأ يشرح القصيدة بشغف ومتعة أدركتنا فصمتنا لنستمتع باستطراداته.
ثم لما انتهى من شرح القصيدة لم يعد لموضوع الدرس، بل بدأ يفصل الكلام في عبقرية أحمد شوقي، وعمق معرفته بدقائق حياة وأفكار قيس بن الملوح، وهنا دخل في قصة قيس نفسها وأشعاره، خاصة قصيدته الشهيرة "المؤنسة"، ثم بدأ يلقي أبياتها ونحن مبهورون بجمال إلقائه وقدراته التمثيلية حتى وصل لقول المجنون:
وَعَهدي بِلَيـلى وَهيَ ذاتُ مُؤَصِّدٍ ** تَرُدُّ عَـلَينا بِالعَشِـيِّ المَـواشِيـا
وهنا بدأت أكتب ما يقوله فسألنا: "هل تعرفون ما معنى كلمة مؤصد؟" فلم يجب أحد، فقال: "هو قميص صغير تلبسه المرأة تحت الثوب، وهو في العادة دون أكمام، وقد كان الفتيات الصغيرات يلبسنه ويخرجن به، فقيس يعرف ليلى منذ أن كانت طفلة صغيرة تلبس مثل هذا القميص دون أن تهدف إلى الفتنة والإغراء، والمجنون نفسه يقول:
تعلقت ليلى وهي غِرٌّ صغيـرةٌ ** ولم يبدُ للأتراب من ثَدْيها حَجْمُ
صَغِيرينِ نَرعَى البَهْمَ يا ليتَ أننا ** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
هل رأيتم اللعب بين شوقي والمجنون، وشوفتوا من بيت واحد نستطيع أن نعرف طبيعة ملابس المرأة آنذاك، وطبعاً كما تعرفون فإن الملابس تتغير ولا تستقر على حال، وقد لا تعرفون أن للموضة في حد ذاتها فلسفة خاصة، فتنة المرأة متنوعة، ولعبة مصمم الموضة أن يبرز بعض هذه الفتنة، ويخفي بعضها، فالعري في ملابس الموضة ليس عبثاً، ولكن الهدف منه الفتنة والإغراء؛ لذا يُظهر مناطق الفتنة، ويخفي عكسها.
عمركم تساءلتم: لماذا يمكن للموضة أن تعري كل جسم المرأة إلا مكاناً واحداً بحجم ورقة التوت تخفيه تحت البكيني؟! أنا أخبركم: لأن هذا المكان بالذات -والبنات تفهمني أكثر- لا فتنة له، وهو من أقبح الأماكن صورة في جسد المرأة لذا يتم إخفاؤه.
بالطبع كنا جميعاً تقريباً ننظر باتجاه البنات، وهن في حالة لا توصف من الحرج والصدمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.