الليبرالية والرجعية!

عندما نقرأ العقيدة الليبراليّة، نحن العرب، وفقاً لما نمرُّ به من مآسٍ وآلام، نشعر للوهلة الأولى أن هذه القيم والمبادئ الطوباويّة، لن يأتي بها إلا "المهدي المنتظر"، الذي يشكل بالنسبة للعقل العربيّ "المخلص" الذي سيجلب لنا الحريّة والعدل والمساواة، وهنا أتساءل: كيف حصل الغرب بعد حروبٍ طاحنة على ما حصلوا عليه؟ هل هم يمتلكون مهدياً منتظراً آخر؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/27 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/27 الساعة 04:03 بتوقيت غرينتش

كم هو مؤلم أن "يُنظّرََ" البعض يوميّاً في وطننا العربي، عبر مختلف وسائل الاتصال، عن القيم والمبادئ الليبراليّة، التي تعود أصولها، أو لنقُل انطلاقتها الحقيقة ابتداءً من القرن السابع عشر، الأمر الذي يبيّن لنا بطريقةٍ أو بأخرى، حجم التخلف والتأخر الحاصل على مستوى الأصعدة كافة.

النخبة السياسيّة العربيّة، لا تزال ملتزمةً بالنظريات السياسيّة التي عفا عليها الزمن، وقد أثبتت التجارب أنها لا تصلح لهذا العصر المتسارع، مهما حاول الفاسدون والمستفيدون من السلطة، تغليفها وتجميلها، وتحميلها أكثر ممّا تحتمل، فهي نظرياتٌ ينقصها الكثير، ووُجدت أساساً لمجتمعاتٍ بسيطة، لم يكن ينطبق عليها مفهوم "المجتمعات المدنية" الحديثة بكلِّ تجلياتها.

بالعودة إلى الليبراليّة، وأخص بالذكر النظريات السياسيّة منها، فتُلخص المادة الأولى لإعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، جوهر الليبرالية: "يولد البشر ويبقون أحراراً متساوين في الحقوق"، فالحرية والمساواة تعبران عن أساس الأيديولوجية الليبرالية.

إن المساواة تعني بالنسبة للأيديولوجيا الليبرالية، أن لا أحد يستطيع أن يستفيد بالوراثة من حقوق أو امتيازات تجعله متفوقاً على الآخرين، وهو مبدأ يتعارض كليّاً مع "دولة" بني أمية، وما تبعها من دولٍ إسلامية، والحال بقي على ما هو عليه في القرن الواحد والعشرين!

أما الحرية في المنظور الليبرالي فتنقسم إلى قسمين: حريات مدنية، وحريات عامة.
الأولى يراد بها، أن كلَّ إنسانٍ يمكنه أن يفكر ويعبر عن نفسهِ، وأن يتصرف كما يشاء، وحرية الآخرين هي مبدئيّاً الحد الوحيد لحرية كل إنسان، بالإضافة إلى أن الحرية المدنية تشمل أيضاً الحريات السياسية وكلّ ما يتعلق بالنشاط الإنساني الخاص.

في حين أن الحريات العامة تعنى أكثر بالنشاط الجماعي، أيّ علاقات المواطنين فيما بينهم، بما في ذلك حرية الصحافة، وحرية الاجتماع، والتظاهر، وإنشاء الجمعيات والنقابات.. فهي حريّةٌ تلعب دوراً كبيراً في التعبير عن الفكر بأشكالهِ المتعددة.

ما يميز العقيدة الليبرالية أنها جاءت، رغم الامتيازات الاقتصادية التي كانت تحصل عليها الطبقة البرجوازية في ظل الحكم الأرستقراطي، جاءت للتخلص من القوانين المتعلقة بامتيازات النبلاء التي وضعت البرجوازيين في طبقة اجتماعيّة وفكريّة دُنيا، ونادت بالحريّة والمساواة بين جميع البشر، وهذه المطالب مشروعة وفق قانون الطبيعة، وليس "هبةً" من الدولة، التي يُنظر لها وفق العقيدة الليبرالية بأنها "شرٌّ بأفضل الأحوال".

يكفي القول إن الليبراليّة كانت من العوامل الأساسية في تقدم دول أوروبا وازدهارها، وهذه الليبراليّة التي أقصد، بدءاً من الثورة البروتستانتية وصاعداً، منحت أوروبا قيم الحريّة والمساواة، والحد من صلاحيّة الحاكم عبر الحقوق الطبيعيّة والمنظومة التمثيليّة والانتخابات التي تمثل إرادة المواطنين، والتعدديّة السياسيّة، والفصل بين السلطات، إنها منحت أوروبا هذه المكانة التي ننظر لها الآن من أسفل القاع.

عندما نقرأ العقيدة الليبراليّة، نحن العرب، وفقاً لما نمرُّ به من مآسٍ وآلام، نشعر للوهلة الأولى أن هذه القيم والمبادئ الطوباويّة، لن يأتي بها إلا "المهدي المنتظر"، الذي يشكل بالنسبة للعقل العربيّ "المخلص" الذي سيجلب لنا الحريّة والعدل والمساواة، وهنا أتساءل: كيف حصل الغرب بعد حروبٍ طاحنة على ما حصلوا عليه؟ هل هم يمتلكون مهدياً منتظراً آخر؟!

هذه العقليّة البدائيّة هي سبب التخلف والجهل والتأخر الحاصل؛ لأنها لم تحسم السرديات الكبرى التي حسمتها العقيدة الليبراليّة قبل عقودٍ من الزمن، ولا نزال نتغنى بحاكميّة سيد قطب وأمثاله، التي تقوم على إقصاء الآخر وتهميشه وتكفيره ما لم يكن مسلماً، وكلّ هذا الإكراه في الدين والعنف الممنهج، من أجلِّ رفع راية "لا إله إلا الله"، كما يدّعي "قطب" ومَنْ والاه، ولا أعرف مَنْ أعطى الحق لهؤلاء الحمقى، الحق في القتل والإكراه وتغيب العقل؟ وكأنهم يتبعون المبدأ الميكافيللي: "الغاية تبرر الوسيلة".

متى نعي أن الدول لا تُحكم بالغيبيات، ولا بـ"البركة"، ولا بلمسات "الأولياء الصالحين"، ولا بـ"هرطقات المهرطقين"، ولا بأعمال "المشعوذين"، إنما تُحكم بالعلم، وهذا العلم قطع شوطاً كبيراً في الغرب، وتفرع إلى عدة علوم، ليس أولها العلوم السياسية، وليس آخرها العلاقات الدولية.

يجب أن لا نخجل من القول إننا نتأخر عن الغرب بأربعة قرون كاملة، بل هذه العقلية هي التي ستقود شعلة التغيير والنهوض بهذه الأمة، عن طريق وضع العلم في المكان الذي يستحق، والغيبيات في المكانة التي تستحق، وهذا هو جوهر الحكم المدني والعلماني الذي نُريد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد