قرأت جملة لعلي عزت بيغوفيتش (المفكر والكاتب ورئيس البوسنة والهرسك السابق) ذات مرة يقول فيها: "إن الشعراء والفنانين هم ضمير هذا العالم"، لقد استوعبت الجملة في إطار الكتاب الذي قرأتها فيه آنذاك، وهو الكتاب المعروف (الإسلام بين الشرق والغرب)؛ إذ كانت نظرية علي عزت بيغوفيتش (وأنا أتفق معه) أن الفن أمر مختلف عن العلم، بل إنهما متناقضان بطريقة ما، والمقصد هنا من العلم الذي يتبناه داروين والمنهج الإلحادي كتفسير شامل لما يحدث في هذا العالم، أو ما يسميه عبد الوهاب المسيري (العلمانية الشاملة)، التي تفسر كل شيء، بما في ذلك الإنسان على أساس الطبيعة / المادة، وبالتالي لا تعترف بوجود ما هو متجاوز للطبيعة، أو أن هناك احتياجات روحية للإنسان مرتبطة بعالم آخر لا يستطيع تفسيره الإنسان أو إشباعه عبر تفسيرات الإنسان المادي، وهو ما يدفعه بالتالي للبحث عن دين يدين به، أو يعبر عن نفسه واحتياجاته وأشواقه، عبر الشعر والفن، ويثبت علي عزت بيغوفيتش كلامه بالتدليل على أن الفن دائماً ما كان مرتبطاً بالدين، سواء من خلال الأناشيد والترانيم الدينية في ديانات مختلفة، أو من خلال أقصى وأجمل مظاهر الفن التي تظهر من خلال معمار المعابد المختلفة.
ويمكن أن أقتبس هنا من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب ما يلي: "العلم والفن، فيهما يكمن جوهر الاختلاف بين نيوتن نبي الكون الآلي، وبين شكسبير الشاعر الذي يعرف كل شيء عن الإنسان، نيوتن وشكسبير وأينشتاين ودستويفسكي يجسدون فكرتين، كل واحدة منهما تنظر في اتجاه معاكس"، ثم يكمل كلامه: "فقضية المصير الإنساني وغربة الإنسان في الكون وهشاشته والموت والخلاص من هذه المعضلات، كل ذلك لا يمكن أن يكون موضوع علم من العلوم، في حين أن الفن -حتى لو حاول- لا يمكنه أن يتغاضى عن هذه القضايا. الشعر هو معرفة الإنسان، كما أن العلم هو معرفة الطبيعة"، ما يريد بيغوفيتش قوله هنا هو أن الشعر والفن يعبران عن الإنسان، عن خواطره واحتياجاته وطموحاته وأحلامه ومخاوفه وأحزانه، عن شعوره بالذنب والرضى، أن الشعر والفن هو ضمير هذا العالم.
لقد ظلت هذه الجُمل عالقة في رأسي إلى يومنا هذا، وهو ما دفعني إلى التفكير في أشكال أخرى -تحت ظل ذات المفهوم- لهذه الجملة واستمراري في الكتابة والتدوين ساعدني في ذلك بشكل كبير.
وأحببت أن أضيف على جملة بيغوفيتش لتصبح: "إن الشعراء والفنانين والكُتّاب هم ضمير هذا العالم"، ويمكن أن تفهم الجملة بمعنيين، فنحن ككتاب ومدونين نشعر بأننا يجب أن نكتب عن كل ما يمر بنا من مشاعر، أو ما نتخيله من حياة أو ظروف يعيشها الوطن أو البشر، فتجد نفسك تكتب عن الفقر، عن الموت، عن الفقد، عن لحظة الفرح، أو لحظة الفراق، أو حتى عن مجنون على قارعة الطريق، تشعر بأن وراءه حكاية ما يجب أن تُعرف، كان الفن والشعر وكتابات المثقفين مترافقين دائماً مع نشوة انتصار أو خذلان هزيمة، مع حماسة ثورة أو دموع قمع، عن دعاء البشر وانتظارهم للأمل دون نسيان الجزء الأهم، وهو عن تعبيرهم الداخلي حول دينهم وربهم، عن نبيهم، عن محنة المؤمنين من قومهم، وعن عالم آخر ينتظرونه بعد الموت.
الفن والشعر والكتابة أفضل أدوات الدفاع عن المظلومين، وتوعية الجاهلين، وفضح الظلمة والمجرمين، واستنهاض همة المقاتلين في سبيل حريتهم وأرضهم ودينهم.
عندما ترى هذا النوع من الكتابة والفن والشعر تدرك أن هذا تعبير عمن لا يستطيع التعبير عن نفسه، وعن كل ما يريد قوله الناس دون الحاجة لاستنطاقهم أو استجوابهم.
لكن الفن والشعر والكتابة يمكن أيضاً أن تعطيك لمحة عن انحطاط مجتمع وعبودية نخبه، أو سوء أخلاق بشر، ولا يمكن ألا تقول إنه ليس بفن بل يمكن أن تقول إن الفن هنا قد أتى ليخبرنا أن ضمير العالم قد تعطَّل وأصبح لا يؤدي وظيفته بالشكل المطلوب، وهو ما نراه اليوم من غناء دون معنى، أو شعر دون مغزى، أو مقالة تمجد ديكتاتوراً، أو أنها لم تكن سوى طلاسم لا هدف منها.
كانت الكتابة والشعر والفن وستظل معبرة عن حالة هذا العالم، فإما أن تعرف من خلالها أن هذا الضمير حي يعمل في أفضل حالاته، أو أنه قد ساء عمله ولم يعد يميز ما بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وفي أسوأ الحالات يمكنك أن تعلم أن العالم قد دُمِّر؛ لأن ضميره -الفن والشعر والكتابة- قد فسد أو توقف.
وقد نعيش الحالات كلها لفترات مختلفة، أو مع فئات مختلفة، لكن يمكن للضمير أن يستيقظ دائماً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.