"الحب -أعزَّك الله- أوله هزل وآخره جدّ" هذا ما قاله ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة، فإذا كان الحب يعيش بين هزل وجد، بين جمال البدايات من الكلام المعسول والشعر المنثور.
فكيف قدر لهذا الحب إن صار ضعفاً؟ نعم لقد أعزنا الله نحن بني آدم بالحب وما تحمله هذه الكلمة بين طيّاتها من الرقة والجمال، وبما أن الله جميل يحب الجمال، فقد زرع جمال الحب في المودة والرحمة بين الحبيبين؛ ليخرج من ضعفهما قوة لا يعرف مداها إلا مَن عاشها، إلا مَن نال منه الحب أو نال مِن أحب.
وفي لحظات عشق لطالما قلنا للحبيب: "إن كان حبي لك ضعفاً، فأنا لا أريد القوة"، كلمات تبدو لأول وهلة صادمة، كيف يمكن أن يختار الإنسان الضعف وتجعله يتنكر لكبريائه ويتجرد من جبروته ليبحر في محيط لا معنى فيه لعبارات كالقوة.
كيف للإنسان أن يختار أن يكون ضعيفاً؟ كيف لماهيته أن تنصهر وتذوب في ماهية الحبيب؟ كيف لحبيب أن يضعفنا؟ أن يتعبنا وأن يسلب إرادتنا؟ قد يعتبر أشد أنواع الألم هو انتظار مَن لن يأتي، أن يغمرك العشق تارةً بمن لن يكون لك.
والرغبة في امتلاك ما ليس لنا هو شعور يبدو مؤلماً للناس يستوجب الشفقة تارةً والاندهاش تارة أخرى، لكنه حقيقة شعور مميت قد يقول الواحد منا مئات المرات كلمة "أحبك" حتى وإن اختلفت طرق قولها، ولكن يكفي جمال معناها، هذا المعنى الذي يكاد يتبرأ من الحبيب، حينما يقولها المحب مع رعشة في الفم ودمعة بحرقة تداري أصدق المعاني، تقابلها صد وامتناع.
ربما يبدو الأمر غريباً عن البعض إلا أن مظاهر الضعف في الحب الأحادي يتجاوز الألم النفسي ليطال حامل هذا الداء بضعف أشد وطأةً ألا وهو الوهن أو التوهم في إعدام القوى حتى النفس يصبح متمرداً من دون الحبيب.
"ويتواصل تشتت كل التفاصيل إلا تفصيلك أنت" حتى الطعام قد تخلى عن صفته في الإشباع، والطبيعة عن الإمتاع، فلم يعد للورد ريح عطر، ولا للعصافير صوت شجن.
كل هذا يقودنا إلى التيقن أن من الحب ما هو ضعف، ولكن الرومانسية أيضاً كثيراً ما تسهم في تعميق الجرح وكلما كانت مفرطة ازداد الجرح عمقاً.
هذا الإفراط الذي إن حاولنا التدقيق فيه وفي أسبابه سنجد سببه الرئيسي الوحدة، الاحتياج لحبيب والرغبة في توظيف مشاعر مدفونة أو مركونة في ماهية الإنسان.
وفقاً للسابق ذكره فسيخيل للقارئ أن الضعف في الحب مرتبط فقط بالحب من طرف واحد، لكن هذا ما سنقوم بدحضه فيما يلي.
فحتى الحب بين الطرفين قد يشوبه ضعف، خاصة إذا رأيناه من منظور مجتمعنا، فالحب فيروس يُبتلى به الجنسان، مصيره الوقوع في المحظور اجتماعياً.
هي حكاية مجتمع يعيق الحياة، معيق للحب الطاهر، معاق بدون مبادئ، حتى فكرة مجتمع واحد متكون من أفراد أجدها كذبة، فالنفاق قد ران على صدورهم وأصبح بيِناً؛ إذ هو لا يقبل بمن يجاهر بحبه وفي الخفاء يعيث فيه فساداً.
موروث أكثر مخلفاته شوارع حزينة بلا روح، بلا سرور غاب فيها جمال الطبيعة، ونحن غيبنا فيها جمال الحب الطاهر.
فذاكرتنا أو موروثنا فيما هو مرفوض اجتماعياً تسبب للجنسين على حد سواء في جهل بالحب، فهو بالأساس ثقافة، حتى إن أنواع العلاقات المعاصرة تخلو من طعم الحب وجماله، كلها مظاهر خداعة، فأقصى طموحات هؤلاء "سيلفي" على شط بحر الهوى ليتظاهروا بها أمام الأصدقاء.
وحتى لا نبتعد كثيراً عن مظاهر الضعف في الحب بين الحبيبين، نؤكد أنه شعور مختلف يسافر بنا نحو عالم يختلط فيه الحب بالضعف، عالم أغلب سكانه من النساء اللواتي يتقبلن الاعتداء الجسدي من طرف الحبيب تحت ما يسمى بالحفاظ على العلاقة والاستمرار فيها.
أيضاً يمكننا القول إن هذا الضعف تختلف تداعياته وفق درجة قوة المرأة، وكذلك مدى تشبثها بالحبيب، ففي بعض الأحيان وفي أعتى لحظات الاعتداء تكون المرأة بلا إحساس، بلا مقاومة، بلا حياة، شعور يستفز جبروت الرجل الذي ينهال عليها بالمزيد من القسوة نستطيع القول إنها تحولت بحبها وجسدها وكل أحاسيسها من مرحلة الصدمة إلى مرحلة الانتشاء، فهي في الأخير لم تبين ضعفها إلا دمعتها التي خانتها في أشد لحظات القوة والاحتمال.
العديد من القراء سيتفقون مع ما كتبته سابقاً وسيجزمون بأن الحب ضعف، وعليه فهم يحاولون قدر الإمكان الابتعاد عن دخول غمار أي قصة حب مهما كان نوعها، بالرغم من أنني متأكد من رغبتهم الشديدة في التجربة.
الحب يحتمل من الضعف مثلما يحتمل من القوة؛ إذ لا يكتمل جماله إلا إذا جمعنا ضعف الإنسان بقوة جمال الحب، فهو سلاح ذو حدين، فيه من الشغف ما يجعلنا نحارب عالماً بأسره.
ألا يحق لقائل أن يقول: إن الحب جميل؟ كيف لا وإذا ما ذكر تغلق في حضرته العيون وتتباعد له الشفتان ويخفق له القلب مرتين يأخذنا إلى عالم دعنا نسميه يوتوبيا الحب لا يوجد فيه إلا الحبيب؟ لا يُسمع فيه لغو إلا جمال كلمات كـ"أحبك" و"سأنتظرك"، وهل للحب معنى إذا لم يكن لنا حرقة في بُعد الحبيب حتى وإن كان قريباً.
هي حالة لذيذة تصور لنا حضن الحبيب كحدود هذا العالم، هذا الحبيب الذي جعلنا نرى الدنيا أجمل، واكتسبنا معه قوة خارقة جعلتنا نقدم على ما كنا نعجز عن فعله؛ لذلك يحق لنا القول بأنه قدر جعل نبضنا يتسارع، وبأنه تحكم فينا إيجابياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.