قبل أيام كتبت فتاة بسيطة وغير جذابة، على حسابها تدوينة تتضمن جملة من كلمتين باللهجة التونسية، هي "كليت تفاحة"، وتعني أكلت تفاحة، تهاطلت عليها التعليقات، فهذا يهنئ بهذا الإنجاز العظيم، وآخرون يتمنون الصحة والعافية، فيما اكتفى الآخرون بزرع قلب أحمر أو إعجاب عادي على تدوينتها العظيمة، بدا الأمر جميلاً وناعماً بين عائلة فيسبوكية لطيفة؛ لأن الشابة الفاتنة ردت بكل نعومة وحب على كل التعليقات.
في المقابل، كتب صديق صحفي تحليلاً موضوعياً وجيداً يماهي فيه بين أزمة العقارات في أميركا سنة 2007 وبوادر الأزمة الراهنة في تونس، قرأت التحليل وسارعت إلى وضع إعجاب، بل وعلقت في حركة بدت سريعة لتشجيع الآخرين على الاهتمام بهذا التحليل، كنت مرعوباً من أن يتسللوا إلى تلك التدوينة المقيتة، وضعت تعليقي، انتظرت كثيراً قبل أن يباغتني "إعجاب" ثانية، لكنه مر وقت طويل قبل أن يضيع التحليل في متاهات الفضاء الافتراضي، عرفت حينها أن الأمر سيفشل، وهنا أشعلتُ أنا سيجارةً وتَسَمَّرْتُ أتابعُ الجريمة بِغَضَب، غضب ليس بسبب فشل التجربة، ولكن بسبب مجتمع يسير بخطى ثابتة نحو المجهول، فيما بقي تعليقي يتيماً وسط آلاف التدوينات التي تسبح على فيسبوك.
لم تكن هذه القصة التي حدثت في فضاء مارك الأزرق سوى تلخيص لما يحدث في العالم، في وقت أصبح فيه فيسبوك مكاناً ليضع فيه سكان الأرض مشاعرهم وأفكارهم وحتى صورهم.
قبل حوالي تسعة أشهر قصف حي القاطرجي في حلب، تمكن الدفاع المدني من إخراج الطفل "عمران" من تحت الأنقاض، لم يكن متلقو صورة عمران الذي جلس مصدوماً دون بكاء ودون حركة تذكر أن يصبح لصورته شأن عظيم، في ذلك الوقت لم يجتمع رؤساء تحرير العالم على صورة مثلما اجتمعوا على صورة الطفل "عمران"، آلاف التقارير التلفزيونية وملايين التدوينات التي حملت هاشتاغ عمران، لكن الذي لا يعلمه كثيرون أن في مأساة سوريا فصولاً أكثر هولاً ورعباً من هذا الفصل، وأن شقيق عمران نفسه قد فارق الحياة في نفس القصف، وأن في سوريا مئات الآلاف من الضحايا قتلوا ويقتلون كل يوم، لكن لماذا بقي عمران في خاطرنا هو فقط من بين كل هذا الكم الهائل من الضحايا؟
في المقابل، رفض رئيس تحرير جريدة نيويورك تايمز نشر صورة لجثة رجل عراقي جراء قصف القوات الأميركية لمبنى وزارة الإعلام العراقية باليورانيوم المنضب إبان حرب الخليج.
تجربة أخرى أكثر مرارة حول الدعاية السوداء التي استعملتها الإدارة الأميركية لحشد التأييد لغزو العراق عام 2001.
قصتان مختلفتان بل إنه من المستحيل المقارنة بينهما، لكن القصة الأولى إذا ركزنا قليلاً سنجدها تختفي في تفاصيل الثانية، ربما ليس الآن، ربما بعد سنوات، بعد أن أكد خبراء غربيون أن مستقبل الصحافة والتحكم في الرأي العام سيبدأ من مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أصبح شخص عادي يمتلك عدد متابعين أكثر حتى من حساب قناة على مواقع التواصل الاجتماعي بمجرد نشره لفيديوهات أو صور عن حياته الشخصية.
يصل عدد مستخدمي فيسبوك إلى ما يقارب المليارين، ثلاثون بالمائة من سكان العالم في مصيدة مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت كسوق موازية للصحافة، فيما سماها البعض "السلطة الخامسة"، سلطة خامسة قادرة على التأثير في ولو جزء صغير من الرأي العام العالمي، ومن ثم التحكم في جزء بسيط أيضاً من الذوق.
إلى أن تصبح السلطة الخامسة هي السلطة الأولى بعد عقود وربما سنوات، ها هي مراكز المال والقرار تعيد تنفيذ نفس الاستراتيجية التي علق عليها بعض الكتاب بقولهم: "يجعلون التافه عظيماً والمهم من الأمور مغموراً".
في مقابل هذه الحرب الضروس لا يزال المواطن العربي يجد صعوبة في استيعاب هذه الطفرة التكنولوجية والتعامل معها، حتى إن بعض المحاكم العربية لا تعتبر البريد الإلكتروني دليلاً، ولم تصدر حتى الآن قوانين لتنظيم كل ما هو إلكتروني من صحافة وتجارة.. ولا تتضمن مجالاتها العقابية أي عقاب لمخترقي الحسابات، أو ما يسمونه بالهاكرز، فيما يجهل أصحاب الحسابات الضخمة تماماً تأثير ضغطة زر لنشر شيء ما على حساباتهم.
بعد أشهر من الآن سيصبح حساب تلك الفتاة قِبلة للقطيع، نفس القطيع الذي ساهم في نشر صور عمران دون أن يسأل سؤالاً واحداً: لماذا اشتهرت هذه الصورة بالذات دوناً عن كل صور الدمار والضحايا في سوريا، وسيصبح عدد متابعيها بالآلاف، وتتمكن وقتها من امتلاك قوة تأثير في الرأي العام ولو ضئيلة، ويصبح لدى الجميع طموح في حصد أكبر عدد من الإعجابات فيجدون أنفسهم مضطرين إلى تقليده، وبهذا يصبح الفيسبوك دائرة مغلقة تبدأ بتدوينة بسيطة تافهة على فيسبوك؛ لتنتهي بانهيار ذوق مجتمع كامل.
في ذلك الوقت بالضبط سيصبح الجميع على نفس خط التمرذل؛ لتكون النتيجة "الذهاب بالمئات إلى المطار لاستقبال شخص مقيم في دولة أوروبية ينشر فيديوهات على فيسبوك يقول فيها كلاماً بذيئاً مثلما حصل في تونس قبل أشهر".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.