بينما كنت معتكفاً بين أوراقي وكتبي وخربشاتي.. وعلى حين غفلة، رن جرس الهاتف، نظرت إليه شزراً.. من الذي يتجرأ على اقتحام خلوتي ومعتكفي؟! كان رقماً غريباً، لم أكن أريد الرد على الهاتف؛ فخبرتي مع الأرقام الغريبة تنبئني بأن الاتصال سيطول، هذا بخلاف الهمّ والغمّ اللذين سينقلهما المتصل إن كان يعاني مشكلة عويصة ذات بعد اجتماعي وأخلاقي.
بعد جهد تنهد طويل، رفعت السماعة.. كان الصوت القادم من الطرف الآخر صوتاً مبحوحاً. بعد أن سلَّم، يبدو أنه أحس بالغربة التي أعانيها معه؛ فذكرني بنفسه.. كان أخاً مدمناً للمخدرات، ثم أصيب بفيروس الإيدز نتيجة إبرة ملوثة من صديق، ويا لها من صداقة تقوم على "الحلوة والمرة"!
لكنه بعد صراع طويل، قرر أن يتوقف وأن يعود إلى نفسه وإلى مجتمعه رغم أنه في نهاية عقده الرابع.. شعرت في حديثه بالاحترام الشديد، وبالمحبة الخالصة. بعد أن اطمأن على أخباري، سلَّم، وبعد حوار هادئ ودافئ أغلقنا سماعة الهاتف.
لعل أحداً لن يصدق أنه يكُنّ لي كل هذا التقدير؛ لأني وقفت معه موقفاً بسيطاً لا يُذكَر؛ فقد خلَّصته من عدد من "الدعاة" الذين مارسوا عليه جَلْد الذات بأبشع صوره! كنا في مؤتمر للتعامل مع مرضى الإيدز مخصص للدعاة، وأئمة المسجد، والوعاظ ، والناشطين، وكان هذا الأخ جزءاً من فقرات البرنامج، حيث كان مطلوباً منه أن يعرِّف الحضور بطبيعة تعامل المصاب بفيروس الإيدز مع مرضه ومع المجتمع.
وما كاد ينهي حديثه حتى شنَّ "الدعاة" حملة لتذكيره بأهمية التوبة، وأن الباب ما زال لديه مفتوحاً على مصراعيه رغم كبر ذنبه وفداحة خطئه تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، كان أحدهم يسكت ليبدأ الآخر بحديث مماثل.
لم أستطع تحمُّل هذا الكلام، فطلبت الإذن للحديث ثم خاطبت الحضور بأن هذا الأخ قد أنهى المراحل التي يتكلمون عنها منذ زمن بعيد، ولولا أنه أنهاها ما كان بيننا اليوم، وذكرتهم بأننا من نحتاجه وليس العكس، وأن مقاييس التوبة ومشاعرها عظيمة عند الله وأعظم من جرم الذنب، ولا حاجة أن نمارس الوصاية على هذا الرجل الطيب.
كان هذا الموقف البسيط سبباً لتواصل هذا الأخ المصاب بالإيدز معي دوماً واحترامه الكبير، وما أعتقده جازماً أن الوعظ أشبه ما يكون بالمِلح في الطعام؛ وجوده مهم، وزيادته تتلفه وتجعله غير مستساغ ولا قيمة فيه.
إضافة إلى أنه يحتاج إلى مراعاة الظروف المحيطة بالشخص المستهدف، كان هذا الأخ المدمن يحتاج أكثر ما يحتاجه إلى تدعيم ما يقوم به من توعية وفهم للملابسات التي دفعته أولاً وقبل كل شيء للإدمان؛ ومن ثم الإصابة بالإيدز.
وهذه أمور يحتاجها كل الحضور، وإن شعوره بالعرفان على ما يقدِّمه في ذلك المؤتمر من شأنه أن يزيد من حماسته وإصراره على مواصلة الدرب الذي خطَّه لنفسه. تُوفي عبد الله العام الماضي نتيجة مضاعفات الإيدز، رحمه الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.