لا حاضر لأمة تنسى ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنسى فضائلها، ولقد أنجبت هذه الأمة الميمونة رجالاً سيقف التاريخ على سيرهم العطرةِ وأيامِهم النَيِرَّة، وصلَّى اللَّهُ على الصَّادقِ المَصدُوِق صلوات الله وسلامُه عليه، خير من تكلَّمَ عن الله عزَّ وجلَّ بأفصَحِ اللسان العربي المُبين.
هو رضوان الله تعالى عليه وأرضاه أول مُلوكِ المُسلمين بعد الخُلَفاء الراشدين: أبي بكرٍ وعُمَر وعثمانَ وعلي رضوان الله عليهم أجمعين، وهو من بني أُمَيَّة بن عبد شمس من عائلةٍ عريقَةٍ في الحَسَبِ والنَسَب، ولقد كانوا فرَسَي رِهانٍ مع بني هاشم أعمامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فكان رضوان الله عليه حاكماً، وبالعدلِ آمراً، وعن المُنكَر ناهياً، ولقد حكمَ رضي الله عنه عشرينَ عاماً.
وكان موصوفاً بالحلمِ رضي اللَّهُ عنه، وقد أُثِرَ عنه أنَّهُ قال:
لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف، يا أمير المؤمنين؟ قال: كانوا إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.
وقال كَلِمَةً رضي اللَّهُ عنهُ واللهِ لا يَقُولُها إلَّا المُلُوك:
لستُ خيرَكُم ولكنِّي خيرٌ لَكُم.
وهذا أنَّه يوجد في الصحابة من هو أفضلُ منه رضوان الله عليه، كأبي بكرٍ وعُمَر وعثمان وعلي والحسن والحسين عليهم الرضوان أجمعين.
ولكن قلَّما يوجد شخص يضبطُ الأمرَ مِثلي، والنَّاسُ أحوَجُ ما يكُونونَ إلى من يَجمَعُ أمَرهُم.
ثناءُ بعضِ عُلمائنا رحمهم الله على سيّدنا مُعاويَة رضي اللهُ عنهُ:
وَقَدْ كَانَ لِاُمِّ حَبِيبَة حُرْمَةٌ وَجَلَالَةٌ، وَلَا سِيَّمَا فِي دَوْلَةِ أَخِيهَا؛ وَلِمَكَانِهِ مِنْهَا قِيلَ لَهُ: خَالُ الْمُؤْمِنِينَ.
سير أعلام النبلاء الجزء الثاني ص 222
أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَيْمُونِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَلَيْسَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ صِهْرٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلا صْهِرِي وَنَسَبِي؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَهَذِهِ لِمُعَاوِيَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَهُ صِهْرٌ وَنَسَبٌ. قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَا لَهُمْ وَلِمُعَاوِيَةَ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
السُنَّةُ للخَلاَّل الجزء الثاني ص 433
مِن مَوَاقِفِهِ وَدَهَائِهِ رَضِي اللَّهُ عنه
الموقف الأول: استأذن رجل على معاوية، فقال للحاجب: قل له على الباب أخوك لأبيك وأمك؛ فقال معاوية لحاجبه: ما أعرف هذا، ائذن له! فدخل، فقال له: أي الإخوة أنت؟ قال: ابن آدم وحواء؛ فقال: يا غلام، أعطه درهماً؛ فقال: تعطي أخاك لأبيك وأمك درهماً؟! فقال: لو أعطيت كل أخ لي من آدم وحواء ما بلغ إليك هذا.
الموقف الثاني: يُذكر أن عمر بن الخطاب قَدِم الشام على حِمار ومعه عبدُ الرحمن بن عوف على حِمار؛ فتلقاهما معاويةُ في موكب نبيل؛ فجاوز عمرَ حتى أُخبر، فرجع إليه، فلما قَرُب منه نزل فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً. فقال له عبدُ الرحمن بن عوف: أتعبتَ الرجل! فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية، أنت صاحبُ الموكب آنفاً، مع ما بلغني من وقُوف ذوي الحاجات ببابك؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك؟ قال: لأنا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدوِّ، فلا بُدّ لهم مما يُرهبهم من هيبة السلطان؛ فإن أمرتَني بذلك أقمتُ عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. قال: لئن كان الذي قلتَ حقًّا فإنه رأيُ أريب، ولئن كان باطلاً فإنها خُدعة؛ ولا آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبدُ الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر الفتى عمّا أوردته فيه. قال عمر: لحسن موارده ومصادره جشّمناه ما جشمناه.
حِنْكَةُ مُعَاوَِية السِيَاسِيَة رَضِي اللَّهُ عَنْه
ذكرنا أن معاوية (رضي الله عنه) رجل محنّك سياسياً، وقد استطاع أن يُلجم شعوباً مختلفة المشارب والأعراق، تكثر فيها النزاعات والفتن، وأن يخضعها جميعًا تحت سلطان حُكمه كما لم يستطع أحد من قبله ولا بعده.
قال ابن عمر (رضي الله عنهما): ما رأيت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسود من معاوية. قيل: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً منه، وكان هو أسود من عمر. (و"أسود" اسم التفضيل من الـ"سيادة")
وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا أبعد أناة، ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية. وكان من حكمته وحُسن معرفته أنه كان عادلاً لا يظلم الناس؛ فعن الأعمش أنه ذُكر عنده عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: يا أبا محمد، يعني في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله.
"شعرة معاوية".. أصلٌ رَكِينٌ مِن أُصُولِ السِيَاسِةِ الرَشِيدَةِ
يُروى عن معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) أن أعرابياً سأله: يا أمير المؤمنين، كيف حكمت الشام عشرين سنة أميراً، ثم حكمت بلاد المسلمين عشرين سنة خليفةً للمسلمين؟ فقال معاوية (رضي الله عنه): إني لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سَوْطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سَوْطي؛ فإذا لم أجد من السيف بُدّاً ركبتُهُ؛ ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
وروي أنه طلب زياد رجلاً لمحاكمته، فهرب منه ولاذ بأمير المؤمنين معاوية، واحتمى به؛ فكتب زياد إلى معاوية يقول له: إن هذا فسادٌ لعملي إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك ولاذ بك! فأجابه معاوية: يا زياد، إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس بسياسة واحدة، فيكون مقامنا مقام رجل واحد؛ لكن لتكن أنت للشدة والخشونة، ولأكن أنا للرحمة والرأفة فيستريح بها الناس. فـسكت زياد وقال: ما غلبني معاوية إلا في هذه.
فرضي اللَّهُ عنه وأرضاهُ وجمعنا الله به في الجنان مع النبي المصطفى العدنان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.