القدس وخمسون حسرةً وألماً وحزناً.. وأكثر

وتستمر المدينة بالنزف، فجراح الإنسان تُشفى بالعناية والتضميد، ولكن جراح المدن عصيةٌ على الشفاء، فكيف بجرح الذاكرة وتلف الروح.. والاحتلال لا يترك فرصة إلا ويُعمل سكينه الصدئة القذرة في جسد المكان والتاريخ، ويزيد ما قد انكلم فيها، وينثر ملح التهويد فوقها، فتنتفض القدس من ألم وخسران.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/16 الساعة 07:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/16 الساعة 07:06 بتوقيت غرينتش

تمضي أعوام القدس مجدبةً قاحلةً، والمدينة منذ ما يربو عن 69 عاماً مسربلةٌ بقيد المحتلّ، ذلك القيد الذي ران على صدر المدينة الوادعة، وأباد ذاكرة المكان، مدمراً الحجر ومشتتاً ما بقي من البشر.. لم تكن المشكلة في قيد المحتلّ فقط، بل بما أراده وخطط له وعمل على تنفيذه ذلك المتغوّل، بالبارود والنار، أو بالقانون الجائر والأمر الواقع، متغلبٌ فيه جنون نيرون وعنجهيّة أخيل، يحاول قضم تاريخ وحاضر ومستقبل المدينة، احتلالٌ عابثٌ حتى الثمالة، تترنح وحشيته في أسمال دولة دخيلة في شرقنا المقهور.

لم يُدرك الاحتلال أن للقدس روحاً علويّة، روحاً يعزّ عليها الخنوع، وتأبى الذلة والمهانة، وهي على ما بها من سموٍّ ورفعةٍ وشرف، فيها رقةُ بنية تلهو في أزقة القدس، تتطلع بعينيها السوداوين صوب الأقصى، تتهادى لأبوابه بدلالٍ وتطلع، هو مكان الترويح عن النفس، وحضن الأبوة الدائم.. وفيها كذلك إباء أسير يشمخ في وجه سجانيه، وشجاعة شاب يخوض الوغى وسلاحه إرادةٌ وسكين جيب.. روح القدس تائهةٌ منذ خمسين سنة وأكثر، لا لعدد السنوات التي تتابعت ويداها مغلولتان، بل من هول ما شاهدته وعاينته في هذه الأعوام المتطاولة، روح انحسرت في بقعة يطلقون عليها شرقي القدس بعد ما قضى الاحتلال على غربيّها، تراها تطلّ من جبل المكبر، ترقب أطلال ما بقي في تلك القطعة الحبيبة، وتحاول أن تلمح عائداً يطمئنها بأن في ذلك الطلّ ثغاء طفل ما هدّه البعد والحرب.. وبقيت تنتظر..

لم يكن انتظارها ضرباً من العبث، فقد كانت تستجمع أطراف أشجانها، تلملم انكسار من فقدتهم، وتعلل نفسها بالعودة إليهم كرةً أخرى، وبأن المدينة لا تموت، حلم العودة داعب مخيلة تلك المدينة البريئة تسعة عشر عاماً، ظنت بأن الغائبين هم في مدارج العودة، ولكنها لم تتصور بأن ذلك الوحش سيأتي إليها، وأسنانه تقطر من دماء من أحبتها ومن رعتهم في كنفها.. وينقض عليها ذلك الوحش محاولاً خنقها من جديد.. ولكن هذه المرة في مركز نورانيتها، وأسّ انبعاثها.. وتظلُّ الأماني أحلاماً مجهولة، لا يمكن – أحياناً – أن تتحقق.

دخل الاحتلال لما بقي من القدس الجريحة مزهواً طرباً، وأخاديد الزمن تذرع وجه المدينة الحييّ، بحسرات واقع مكلوم، وأوجاع أخرى مؤجلة لأيام قهرٍ قادمة.. طوت القدس سنواتها العجاف، وأصبحت الأعوام تتلاحق في نزفٍ متتابع، وروح المدينة تترنح من هول الواقع ومرارته.. لقد تعمقت جراح المدينة أكثر، وأصبحت قانية دائمة النزف، فالخسارة لا تقاس بمنطقٍ محدد.. قضم المحتل بعد احتلال المدينة مباشرة حارة المغاربة، وأحالها كومة تراب في مهب مشروعه، واستولى على حائط البراق، وجعله لذلك البكاء المصطنع السخيف، ولم تندمل ندوب حريق الأقصى بعدها بعامين فقط، واختفى منبر الملك الصالح نور الدين، الذي أرسل حبه للقدس منبراً للتحرير، لم يرَ منبره في كنف الأقصى، لكن يوسف الأيوبي أبرّ له وعده، وبقي المنبر رمزاً للاجتهاد والجهاد والوفاء حتى تآكلته النيران، وأحالته رماداً..

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات "هاف بوست" لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد