فلسطين ومداد الذاكرة القاني

للذاكرة الفلسطينيّة شجنٌ مختلف وعبق أثير، فهو حنين مزدوج لأرضٍ ولزمان، وما فيهما من تفاصيل عن جدران القرية ونمط العيش، وعن تلك المدن العامرة البهيّة التي خلت من عاميرها في لحظات شديدة القهر والحساسيّة، وعن أغراب احتلوا الدور وكسروا غصن الزيتون، وعاثوا في البلاد تغييراً وتهويداً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/10 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/10 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش

لا تمتلك أمة ذاكرةً حيّة مثلما تمتلك أمتنا وشعوبها المكلومة، حتى أصبح ذلك التشوّق للماضي حالةً معيشةً، وجزءاً من واقع مبهم قد غربت فيه شمس التأثير، وغلب عليه المِحَن والفتن، فمن مغرب الأرض إلى مشرقها، ذكريات تنهمر عن ماضٍ تليد، غيبته سرابيل الغلبة والقهر، ولكن أصحابها آثروا حياتها على حياتهم، وظلوا متمسكين بها وظلت ماثلة بهم وفيهم.

وللذاكرة الفلسطينيّة شجنٌ مختلف وعبق أثير، فهو حنين مزدوج لأرضٍ ولزمان، وما فيهما من تفاصيل عن جدران القرية ونمط العيش، وعن تلك المدن العامرة البهيّة التي خلت من عاميرها في لحظات شديدة القهر والحساسيّة، وعن أغراب احتلوا الدور وكسروا غصن الزيتون، وعاثوا في البلاد تغييراً وتهويداً.

حنين الفلسطيني يظهر جلياً في عدد من المشهديات، فبعد ما يربو عن 60 عاماً من عمر هذه النكبة، ما زال الفلسطيني محافظاً على لهجته ولكنات البلاد التي قدم منها، ولتلك البقاع قصة أخرى من روابط القرابة والمروءة والتعاضد، ولم يكن احتفاظ كبار السن بمفاتيح بيوتهم إلا ضرباً من الحفاظ على الهوية والجذور، والانتظار الذي تطاول كل هذه السنوات لعودة مأمولة، ولم يحتفظوا بالمفاتيح فقط بل احتفظوا أيضاً بعادات الفرح والحزن، واللباس والعيش، وإنك لتجد مَن يحدثك عن الناصرة أو اللدّ أو حيفا، ويسرد دقائق تفاصيل المكان، يهيم حديثه بين جنات الأرض وعبق التراب، عن أبطال ومواقف، لكأنها ماثلة أمام عينيه، وهو من ولد في مخيمٍ على شاطئ البحر في عكار، أو قرب دمشق.

حديث اللحظات الأخيرة هو الأصعب على النفس، وأذكر تماماً ذلك العجوز الذي يغيب عنه -لكبر سنه- اسم بعض بنيه، ولكنه لم يغيّب في أوراق العمر وصف الأراضي الريانة في بلده، وعن عمل الزراعة الذي فيه "البركة"، ووالدته صاحبة العزم والاجتهاد والتدبير فهي الحاذقة "الشاطرة"، وعن قوة والده وشجاعة القروي الأصيل، وعن أخيه الشهيد الذي هبّ لتلبية نداء الحق والواجب، وعن أولئك الرجال الأشداء الذين حاربوا المحتلّ البريطاني والتغلغل الصهيوني، ولكنه عندما يصل لتلك اللحظة الفاصلة التي انتقل عبرها من الفتوة إلى عمر الرجال، يتهدج صوته ويعبق بألمٍ مكتوم وهو من خرج بدابةٍ فقط دون أهله وقومه، ووصل إلى لبنان منفرداً ومن هنا قصة أخرى وتقلب في الأزمان والأوطان.. أحاديث وأحداث، بل قصص عمر ممتد، عقله يقص ما مضى، وقلبه ما زال هناك في "صفوريّة"..

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد