آكلو البطاطس

وأدقق كثيراً في تعابير وجوههم والأسلوب الذي استخدمه فان غوخ بهذه اللوحة، في كل مرة تلمس "آكلو البطاطس" نفسي، فأختبر مشاعر مختلطة ربما، وإن نظرنا بجدية أكبر إلى أعمال فان غوخ فسنجد كثيراً مما يستحق التأمل ونكسر الصورة النمطية الوحيدة التي ارتبطت به في أذهاننا.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/28 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/28 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش

"سأكون فقيراً، وسأكون فناناً؛ لأنني أريد أن أبقى إنساناً" فان غوخ.
هل ارتبط الفن بالفقر، بالمعاناة، بالألم؟ أم هي مجرد مصادفات قد أصابت أغلب أعظم الفنانين من قبل، فنقلوها لنا على صورة لوحات؛ لأن اللوحة تتحدث أفضل، فهي لن تستهلك منك سوى بعض النظر، فنُقلت لنا صور لبؤساء وصور لفقراء، حتى إن بعض الفنانين خصصوا جزءاً من فنهم ليرسموا الفلاحين والفقراء، كفان غوخ مثلاً والذي نقلت اقتباساً عنه من أحد رسائله لأخيه، ثيو، في مقدمة هذا الموضوع.

ماذا يمر في ذهنك من لوحات عندما يُذكر أمامك اسم فان غوخ؟ لوحة ليلة النجوم؟ أو البورتريهات الشخصية له التي رسم في بعضها تعابير وجه قاسية حزينة؟ أو ربما ما قد يمر في بالك على الفور هو أذنه المقطوعة والملفوفة بشاش طبي.

ماذا عن الفترة الكبيرة قبل التي كان يرسم فيها، وقبل أن يرسم حتى، ومراحل حياته من تاجر فن قد ترك وظيفته هذه بعد أن أدرك أن تجارة الفن قد اتخذت صورة احتيال واضحة؛ أخصائي اجتماعي، كاهن قد فُصل من الكنيسة وعاشر وقتها الفقراء وأصبح واعظاً لهم وضحى لهم بالطعام والملابس، وأهداهم كثيراً من الحُب والدعم، حتى بدأ برسم اسكتشات لهم على مدى 3 سنين تقريباً، فرسم عدة مواضيع للفلاحين، حتى إن طموحه كان أن يصبح بذلك فناناً للفلاحين، واسكتشات للفقراء أيضاً داخل بيوتهم وعمال مناجم الفحم وهم يحملون على ظهورهم الأحمال الثقيلة.

لقد كان فناناً يحمل قدراً كبيراً من الإنسانية والمودة، ليس فقط مُجرد صورة ارتبطت في ذهننا بأنه مريض نفسي آل به الأمر إلى قتل نفسه.

"رسْم حياة الفلاحين هو أمر جدي وحقيقي، وأنا قد ألوم نفسي إذا لم أحاول صنع لوحات تعطي أولئك الناس الذين يفكرون بجدية حول الفن والحياة، شيئاً حقيقياً ليفكروا بشأنه"، قد كتبها فان غوخ في رسالته لأخيه ثيو عام 1885، وهو أيضاً العام نفسه الذي بدأ فيه أول عمل فني كبير له والذي اعتُبر أول عمل فني مهم له، وهو لوحة "آكلو البطاطس"، في هذا الوقت قرر فان غوخ أن يتوقف عن رسم الفقراء والفلاحين بشكل رومانسي ويركز أكثر على نقل هذه المواضيع بشكل واقعي؛ ليظهر المعاناة التي يعانيها هؤلاء الفلاحون في جني لقمة تُبقيهم على قيد الحياة.

هناك قسوة حقيقية عندما يعمل الفلاح الفقير البسيط من بزوغ النهار بمشقة؛ حتى يستطيع في آخر النهار أن يأكل بعض ما جنى، وهذا ما حاول فان غوخ عكسه في هذه اللوحة.

لوحة "آكلو البطاطس"، استغرق إعدادها ودراستها فصل شتاء كاملاً، رغم أنها استغرقت منه وقتاً قصيراً نسبياً في رسمها وتنفيذها واعتمد على ذاكرته بشكل كبير.

قام بدراسات عدة للأيادي والرؤوس، والجدير بالذكر أنه لم يكن يعتبر وقتها متمكناً بشدة أو ماهراً في رسم القوام البشري؛ الأمر الذي جعلها تحدياً صعباً وجدياً بالنسبة له ليثبت أنه يتحول لمصور جيد ونقله في رسم القوام البشري بشكل طبيعي وواقعي مستخدماً ألوان الزيت.

تًظهر لوحة "آكلو البطاطس" عائلة الفلاحين المكونة من 5 أشخاص، رجلين و3 نساء، يرتدون إما قبعات وإما مناديل، وملابسهم ثقيلة وطويلة، متجمعين على طاولة الطعام وأمامهم طبق كبير من البطاطس المشوية، وعلى الطاولة أيضاً فناجين مشروب ساخن يبدو كالقهوة، والتي تصبه السيدة على اليمين ببعض التركيز والتعب في آن واحد، والتي يظهر أيضاً أنها سيدة كبيرة من انحناءة ظهرها وتجاعيد وجهها، ولا يوجد مصدر ضوء سوى لمبة غاز صغيرة مُعلقة في السقف ينعكس ضوؤها على وجوههم.

تبدو تعابير وجوههم جديةً ومتزنةً، ولا يبدون سعداء أو مرحين كما يجب أن يبدوا وقت العشاء بين العائلة، وكأن تعابير وجوههم تُعبر أيضاً عن مشاعر داخلية مختلطة!

عظام أيديهم تبدو بارزة، وجلود أيديهم يبدو عليها آثار ترابية بالألوان البني، والأسود والرمادي والتي تظهر بذلك آثار العمل والحرث في الحقول وهي الأيادي نفسها التي يمدونها الآن في الأطباق ليأكلوا، وبعض هذه الآثار أيضاً تظهر على وجوههم وملابسهم، وتظهر بشكل واضح جداً على المناديل البيضاء التي ترتديها الفلاحات على رؤوسهن.

رغم أن الألوان السائدة هي البني والرمادي والتي توحي بالظلمة والكآبة، فوجوه الشخصيات تبدو ساطعةً بشكل واضح وفيها درجات ألوان أفتح.

في الخلفية، تظهر خطوط خفيفة تُحدد شكل النوافذ والسقف، ومن اليمين يظهر عمود كأنه يسند هذا البيت الصغير الذي يحتوي العائلة ويحميهم، وفي اليسار خطوط تحدد شكل برواز خشبي يبدو قديماً بعض الشيء وساعة حائط في الأعلى.

يتسع خيالي في كل مرة أنظر فيها إلى اللوحة، فأتخيل أنني أسمع الأحاديث التي تتشاركها هذه العائلة، أحاديثاً قصيرة أو لحظات صامتة هي التي يتشاركونها على الوجبة التي جنوا محصولها بأنفسهم.

وأدقق كثيراً في تعابير وجوههم والأسلوب الذي استخدمه فان غوخ بهذه اللوحة، في كل مرة تلمس "آكلو البطاطس" نفسي، فأختبر مشاعر مختلطة ربما، وإن نظرنا بجدية أكبر إلى أعمال فان غوخ فسنجد كثيراً مما يستحق التأمل ونكسر الصورة النمطية الوحيدة التي ارتبطت به في أذهاننا.

لم تعتبر "آكلو البطاطس" في وقته لوحة ناجحة، وعلى الرغم من كل المحاولات التي قام بها لم يعجب معظم الناس بأعماله؛ ما أصابه بالإحباط، ولكن في وقتنا هذا نالت "آكلو البطاطس" قدراً كبيراً من الإعجاب والتقدير والموجودة الآن بمتحف فان غوخ في أمستردام.

"إذا فاحت رائحة من لوحة للمزارعين غير رائحة اللحم المُقدد، والدخان، وأبخرة البطاطس الساخنة، فليكن، فهذا كله ليس مضراً بالصحة".

كان هذا تعليقاً لفينسنت فان غوخ على لوحته، هل تتخيل أن تفوح رائحة للوحات؟ بالطبع، قد تخيل أغلبنا ذلك بالفعل، كما تخيلت أنا الأحاديث التي تدور بين الشخصيات، عندما تنظر للوحة فيها مجموعةٌ من الزهور فتتخيل أنك تشم رائحة الزهور بدل رائحة الألوان المميزة.

للوحات طقوس، تفتح مخيالاتنا وأحاسيسنا ولا يُمكن أن ننظر إلى لوحة عظيمة من دون أن تُلهمنا وتُوسّع مداركنا ورؤيتنا، الفن لا يؤخذ بسطحية، لكل خط يوضع على اللوحة إحساسٌ معين، والفن هو أعظم وسيلة لإمتاع الحواس وعلاجٌ للروح بطرق عدة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد