رسالة إلى السيد الوزير.. إيطاليا هي جارة السوء لتونس وليست الجزائر أو ليبيا

التصريح على غرابته وتزامنه مع التحريض المستمر على الجزائر يكشف جهلاً بتاريخ المنطقة قديماً وحديثاً ويمنحنا اليقين بأن السيد الوزير لم يحفظ شيئاً من تاريخ بلاده الضارب بجذوره لآلاف السنين ولا تاريخ العلاقات بين ضفَّتَي المتوسط

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/26 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/26 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش

قال أحد حكماء العرب الغابرين: "رُبَّ منطقٍ صَدَّع جَمْعاً، وسُكُوتٍ شَعّبَ صَدْعَاً"، نخشى أن يلامس هذا القول واقع حالنا بعد زلات اللسان التي دأب عليها رجال الدولة في وطني تونس حتى كادوا يدقون إسفيناً جديداً فيما تبقى من علاقات الأخوة العربية – العربية، فقد صرح مؤخراً وزير الجماعات المحلية والبيئة من روما، إثر حضوره ندوة تحت عنوان "تونس أمل المتوسط"، بأنه يفضل أن يحدد موقع بلاده الجغرافي على أنه جنوب إيطاليا وليس بجانب الجزائر التي وصفها بالبلد الشيوعي، أو ليبيا التي أطلق عليها صفة الدولة المخيفة.

التصريح على غرابته وتزامنه مع التحريض المستمر على الجزائر يكشف جهلاً بتاريخ المنطقة قديماً وحديثاً ويمنحنا اليقين بأن السيد الوزير لم يحفظ شيئاً من تاريخ بلاده الضارب بجذوره لآلاف السنين ولا تاريخ العلاقات بين ضفَّتَي المتوسط.

يؤسفني أن أخصص جزءاً من الزمن ولو يسيراً للرد على هذا الهذيان بدل مناقشة الأفكار البناءة ومتابعة التغيرات الجيوسياسية في وطننا العربي والعالم، لكن أجد نفسي أنا المواطن العربي البسيط غير المؤمن بحدود ما بعد دولة الموحدين في المغرب العربي مجبراً على تذكير الوزير بتاريخ منطقتنا، بدءاً بغزوات الرومان على قرطاج، وصولاً إلى الكفاح المسلح المشترك زمن الاستعمار الغربي.

كانت قرطاج -يا معالي الوزير- تمتد على شريط ساحلي يصل أقطار المغرب العربي بتخوم الأندلس أو يتجاوزه، ويصعب تحديد ما إذا كان أسلافك قد وُلدوا في الجزائر أو ليبيا أو المغرب، فلم يكن للحدود وجود، ولم يكن لها معنى، وكنا أبناء إمبراطورية واحدة ضاربة في الأرض مهابة يتربص بها أسلاف من استضافوك في روما وصفّقوا بانبهار ظاهر وازدراء باطن لكلماتك، وهم يرددون في السر أن حفيد حنبعل جاءنا متبرئاً من أرضه، لاعناً ترابها، ساخراً من أهلها، متحدثاً عن ليبيا "المخيفة" التي حوّلتها جيوش أوروبا والأعراب من قلعة للصمود إلى كومة من ركام، لكنك -يا سيدي- لم تكلف نفسك عناء السؤال عن أيهما المخيف هل هو المعتدي أم هو المعتدى عليه، ومن هي المدن الأكثر إثارة للرعب وسفكاً للدماء عبر التاريخ هل هي روما وباريس أم طرابلس والجزائر.

يستحيل المرور ولو سريعاً على مجمل تاريخ الصراع بين قرطاج أرض أجدادك وبين روما التي ألقيت منها حممك علينا، لكن لنبدأ الدرس الأول من الحروب البونية التي دامت 118 عاماً بيننا وبين روما، قرن ونيف من الصراع انتهى باجتياح قرطاج واندثار حضارة كانت رائدة لأمم ذلك الزمان، نقول قرطاج لأننا لا نعرف أين نزل العدو أولاً بجيوشه ومرتزقته أفي الجزائر أم تونس أم المغرب أم غير ذلك من الأقطار المحدثة؟

لكننا نعلم يقيناً ما حل بتلك الأرض من خراب ودمار ونهب بعد وصول الرومان إليها، ونعرف أن الغزاة فرشوا أرضنا بطبقات كثيفة من الملح حتى تصبح يباباً لا حياة فيها، ونعرف أن محركهم الوحيد عدا الطمع هو الحقد الدفين على هذه الأرض والمستشري إلى اليوم في مكامن جينات أجيال الرومان المتعاقبة.

سرق الغزاة موسوعة ماغون التي تعتبر حتى عهد غير بعيد أحد أهم الأعمال التي تناولت أسرار الفلاحة الناجحة وترجموها إلى لغتهم، وسعوا لتطبيق ما جاء فيها حتى يحملوا روح قرطاج الخصبة إلى روما، لكن الأرض المحروقة المغتصبة انبعثت من رمادها بعد زمن ليس بالقصير، وعادت إليها خصوبتها فسمّاها الغزاة "مطمور روما".

وخاض أهلها العديد من المعارك والانتفاضات طلباً للتخلص من ربقة المحتل الجاثم على أرضهم ليسجل التاريخ على صفحات المجد أسماء يوغرطة وتاكفاريناس وغيرهما من أجدادنا الذين أبوا الاستكانة للاحتلال الغربي القادم من الضفة الشمالية للمتوسط.

قرون من الاحتلال والاستعباد والخراب -يا معالي الوزير- عاشها أسلافنا على يد جارة السوء روما التي استهلت عهدها في قرطاج باستعباد من نجا من أسلافك من المذبحة، ثم استوطنها الرومان في زمن يوليوس قيصر، وأعادوا بناءها بعد ستة قرون من السقوط أو يزيد، كما يبني الكيان الصهيوني اليوم كنتوناته في الضفة وتخوم القطاع لزناة الليل وقيء الشعوب على ركام القرى الفلسطينية المهدمة.

وتسقط البلاد بعد ذلك في يد الوندال وهم قوم من الجرمن عبروا المتوسط ودخلوا في معارك كثيرة مع الروم على أرضنا، كنا نحن وقودها وضحيتها الأولى، وهنا أعيد تذكيرك -معالي الوزير- بأن كل هذه المآسي تقاسمها مَن يسمون اليوم سكان تونس والمغرب والجزائر وليبيا إلى أن منّ الله علينا بالفتح فامتلكنا أسباب القوة وانطلقنا صوب أوروبا لاستعادة حقنا السليب في الأندلس، ولكبح جماح أوروبا المعتدية.

ينقلب الزمان مجدداً ويسقط المغرب العربي تحت نير الاحتلال الإسباني المقيت الذي أحرق النسل والزرع ثم الاحتلال الفرنسي والإيطالي مع تراجع العثمانيين، ولا نظنك بحاجة إلى تذكر حجم المآسي التي عاناها أسلافنا أو المجازر الجماعية التي حصدت أرواح الملايين، لكن أود على الأقل تذكيرك بأن معارك التحرير كانت واحدة من مراكش إلى طرابلس، وأن رمز المقاومة التونسية "محمد الدغباجي" الذي تغنت به حرائر الأمة قد شارك في محاربة الطليان في ليبيا والفرنسيين في تونس ليمثل بفكره وجهاده مشروع وحدة تصطك لها ركب الغزاة، فقاتل بلا هوادة إلى أن أسره الطليان وسلموه إلى فرنسا رغم الاختلاف الأزلي بين روما وباريس؛ ليقع إعدامه رمياً بالرصاص أمام حشد من المواطنين العزل بقصد ترويعهم.

يدرك الغزاة أكثر مما تدركه أنت أن المغرب العربي كتلة واحدة، وأن أرض تونس كانت امتداداً للجزائر إبان حرب التحرير، وأنه قد كان لها من إرهاب فرنسا نصيب حتى بعد الاستقلال، شأنها شأن بلد المليون شهيد، والأكيد أنه تناهى إلى مسامعك الحديث عن جريمة ساقية سيدي يوسف بعد سنتين من إمضاء وثيقة الاستقلال التونسي، يومها أقدم الطيران الإرهابي على قصف مدرسة وسوق شعبية في المنطقة المشتركة بين البلدين؛ لتحصد أرواح عدد من الأطفال والنساء والشيوخ.

ختاما سيدي الوزير.. إن من لعنات الجغرافيا أن وضعتنا بجوار إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، ولكَم يسعدني تعريف موقع بلادي بالقول إنها أرض حنبعل مرعب روما، وأرض عمر المختار شيخ الشهداء، وأنها أرض الثائر الجزائري الكبير عباس لغرور والمغربي موحا أوحمو الزياني، وأنها الجزء الغربي من الوطن العربي الكبير الذي نحلم بانبعاثه مجدداً، ومن المضحكات المبكيات أن تتحدث عن المغرب العربي باعتباره أجزاء منفصلة، في حين يحدثنا المستشرق البريطاني روم لاندو عنه بالقول: "إن لشعب شمال إفريقيا وحدة حضارية لا يمكن تجاهلها"، وأياً تكن دوافعك لمثل هذا التصريح، فثِق أنها تثير ضحك دارسي التاريخ وتثير شجوناً لا حصر لها لدى المتابعين لكواليس السياسة والحروب القذرة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد