كثيراً ما طرح سؤال الهوية في تونس بعد الثورة خاصة بعد الصراع أو الانفجار الهوياتي، الذي شهدته بعد عودة حركة النهضة إلى الساحة السياسية وظهور مجموعات أصولية في المشهد العام، سؤال حارق ربّما يعتبره الكثير ترفاً لا يليق باستحقاقات الثورة، ولكنّه سؤال مهمّ في نظري لا يقطع مع الحقوق الاجتماعية والسياسية.
سؤال يطرح على هذه الشاكلة: هل تونس عربية أم أمازيغية إفريقية، مسلمة أو يهودية أم مسيحية، فتأتي الإجابة من البعض ربّما قلة قليلة: "تونس تونسية"، وتاريخها يشهد أنّها كلّ ذاك وأكثر، تونس المسيحية لم تنحر تونس اليهودية، وتونس المسلمة احتضنت كل هذا دون تشنج وحافظت على تعددها في كنف التسامح، وتونس الناطقة بالعربية لم تلغِ تونس الأمازيغية والإفريقية.
المتأمل في التراث الموسيقي التونسي يجد الإجابة دون عناء، تونس تونسية بتعددها واختلافها، موسيقى اليهود ما زالت حاضرة في أعراسنا والموشحات الأندلسية ما زالت تشهد على جزء من تاريخ تونس، وموسيقى الزنوج جزء لا يتجزأ من تراثنا.
تحمل الذاكرة الموسيقية التونسية الإجابة عن كلّ الأسئلة الملغزة حول من نحن؟ لتقول الموسيقى نحن كلّ هذا وذاك انصهر جميعها لنكون تونسيين لحماً ودماً وتراثاً وتاريخاً.
من هذا المنطلق سنعرّف بموسيقى الاسطمبالي الإفريقية التونسية التي عادت اليوم إلى المشهد الثقافي بشكل محتشم، ولكنّه يلقى القبول من الشباب الذي يحبّ الرقص على نغماتها، هي موسيقى ينشد فيها المتلقي راحته ومتعته، بين الأنغام الصاخبة والتي يتحرر فيها الجسد من أغلال العالم وهمومه والتي لا تقطع مع مبدأ التصوّف الذي تنشده الروح بعد إجهاد الجسد.
استعملت موسيقى الاسطمبالي التي تعرف بالقناوة في المغرب الأقصى وبالديوان في الجزائر في بعض الطرق الصوفية، مثل حضرة سيدي منصور وسيدي مرزوق وغيرهم، يرقص على أنغامها أتباع الوليّ رقصة الدراويش؛ لينهكوا بعدها تماماً كما ينسب بعض المصادر التاريخية أنّ ملكيتها تعود إلى بعض الأفارقة ومن التجار الذين استقروا بشمال إفريقيا قبل أن تنصهر موسيقاهم مع الموروث الإسلامي وتوظف لصالح الإسلام الطرقي نقصد هنا الصوفية الشعبية المنتشرة بكثرة في شمال إفريقيا.
تجمع موسيقى الاسطمبالي بين الجسد والروح في مشهد عنيف ورمزي في نفس الوقت يربط بين أغلال السلاسل وقرع الطبول، وحضور الزنوج أصحاب هذه الموسيقى، في إشارة واضحة إلى معاناة السود واستعبادهم في القرون الماضية، في صحاري قارة إفريقيا إلى حين وصولهم في السفن موثقين بالسلاسل الحديدية إلى أسواق النخاسة في الحواضر، وذلك قبل أن يلغى الاسترقاق نهائياً بتونس سنة 1846 بمبادرة من أحمد باي، وتعتبر تونس السباقة الأولى عربياً في إلغاء الرّق، بل وتسبق بعض أعتى الديمقراطيات في العالم في هذا الشأن.
ترتبط موسيقى السطمبالي باسم بوسعدية وتقول بعض الروايات الشفوية إنّه من الأولياء الصالحين بتونس واسمه سيدي سعد شوشان، رغم أن الثقافة الشعبية تستهجنه وتقلل من قيمته وجعلت من وجوده فلكلوراً مرتبطاً ببعض المناسبات كشهر رمضان أو في الزيارات لبعض الأولياء كما يخوفّ الصغار من بوسعدية مثله مثل الغول؛ إذ يظهر في الماضي رجل أسود يتقمص شخصية بوسعدية يخفي وجهه ببرقع ويلبس زيّاً صنع من فرو الحيوانات وريش بعض الطيور، ويمسك بعض الأدوات الحديدية ليقرعها ويُحدث بها ضجيجاً يرقص على أنغامه، وهي رقصة شهيرة انتشرت في بعض مناطق الجمهورية التونسية.
كما تنسب بعض الأساطير الشعبية أنّ بوسعدية هو أحد ملوك إفريقيا الذي اختطفت منه ابنته المسماة بسعدية وتمّ اقتيادها نحو أسواق العبيد فهام على وجهه المخفي بقناع يردد بعض الأغاني الملغزة لعلّ ابنته تتعرف عليه في بعض البلدان التي زارها، خاصة أنّ التراث الشعبي المغربي يحتفي بشخصية شبيهة لشخصية بوسعدية في تونس، الأسطورة الشعبية تشير في دلالة واضحة إلى أنّ هذه الموسيقى رغم صخبها تحمل بين طياتها مواجع السود ومعاناتهم في التاريخ الإنساني.
تتميّز موسيقى الاسطمبالي بإيقاعها الصاخب والذي يعتمد على رنين بعض الصفائح الحديدية التي تسمى بالشقاشق، كما تعتمد أيضاً على إيقاع الطبلة وتقدّم بلغة غريبة عن اللغة العربية يقال إنّها من بقايا اللغات الإفريقية التي ترتبط بثقافة عالم الأرواح المنتشرة في القارة السمراء، وهي تعرف بالفودو في غرب إفريقيا، ويعتقد أتباع الفودو باستحضار الأرواح لمساعدتهم من الشرّ المحيط بهم.
يتخمّر الراقص على نغمات الاسطمبالي إلى درجة الانتشاء، وهي ركيزة أساسية في العالم الاسطمبالي الذي يلعب على تحرير الجسد، وكأنّ الأسود حين مارس رقصته الأولى كان يرنو إلى الحرية من أغلال العبودية فكأنّ النغم يقول له: ارقص ارقص حتى تتحرر من عبوديتك.
تؤرخ موسيقى السود إلى معاناتهم، فكما غنت سيزاريا إيفورا حافية القدمين، ونجحت في استقطاب الاهتمام نحوها وتوجيه الأنظار نحو أطفال إفريقيا الحفاة والجياع، نجحت مجموعات البلوز في توثيق مأساتهم في أميركا من عنصرية وضيم تعرّض لها سود أميركا قبل أن تنجح روزا باركس في تخليد اسمها كأيقونة من أيقونات النضال ضدّ العنصرية محنة الإنسانية المتجددة أشهر مقولات الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، وقد نجحت الثورة التونسية في إثارة ملف السود المحرّم منذ سنوات الاستقلال، والذين تجمعوا في جمعيات ومنظمات؛ ليطالبوا بمساواتهم الكاملة مع بقية المواطنين.
– تم نشر هذا المقال بجريدة آخر خبر التونسية
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.