يوميات ممرّض في وطن منسيّ “1”

رنَّ منبه هاتفي الذكي (ليس باهظ الثمن)، والساعة تشير إلى الرابعة والنصف صباحاً، لم أعتَد الاستيقاظ هذا الوقت الباكر، يا له من فراق صعب بيني وبين مخدّتي، فراق زاد قساوته إدماني السهر الذي لم يكن سوى المهرب الوحيد من ألم البطالة التي دامت عامين وما يزيد

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/24 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/24 الساعة 03:22 بتوقيت غرينتش

(يوم جديد..)

رنَّ منبه هاتفي الذكي (ليس باهظ الثمن)، والساعة تشير إلى الرابعة والنصف صباحاً، لم أعتَد الاستيقاظ هذا الوقت الباكر، يا له من فراق صعب بيني وبين مخدّتي، فراق زاد قساوته إدماني السهر الذي لم يكن سوى المهرب الوحيد من ألم البطالة التي دامت عامين وما يزيد، كل هذا بعد أن تحصلت على دبلوم التمريض بجدارة من المعهد الحكومي لتكوين الأطر في الميدان الصحي بمدينتي، لكن اليوم استثنائي ويستحق عناء مسابقة صياح الديك، إنه أول يوم لي في العمل، إنه الخلاص.

أدّيت طقوسي الصباحية منتعشاً على غير كسل العادة، لا بد أن الفرحة بداخلي قد تكفي لتُوَزَّع على أطفال الشوارع كلهم فتكفيهم.

قبَّلت رأس والدتي، لقد استفاقت قبلي بكثير، والمرَجّح أنها لم تنَم البارحة، وجدتُ فطوري جاهزاً، تناولت بعضه على عَجَل قبل أن أعود إلى غرفتي للملمة أشيائي الصغيرة وحقيبة سفري التي كنت أعددتها البارحة، لن أنسى صورة الفتاة التي عاهدتها أن نتقاسم الحياة ما إن تصير أمور عملي بخير، كممرض مستقبلي لا بد أن هذا الوعد سيأخذ وقتاً طويلاً حتى يتحقق، سأحرص بعون الله على ذلك.

قبّلت جبين أخي الصغير البالغ من العمر ست سنوات، اسمه خليل، أنا سمَّيته كذلك بعد أن توفي والدي قبل أن يجيء الفتى إلى هذه الدنيا، أردت أن أعانقه بحرارة إلا أني خشيت إيقاظه في هذا الفجر البارد، خصوصاً أنني أعلم مزاجه العكر حين يستيقظ، يستلزمه نصف ساعة حتى يعرف مَن هو وأين هو وماذا يجري؟!

هذا الرجل الصغير لم يشاركني غرفتي فقط بل حمل عني وحدتي ووحشتي طول السنتين الماضيتين، بشكل من الأشكال لقد جعلني أحتمل الحياة، لطالما حكيت له عن حظّي وعن طالعي الذي لازمه العسر، لم يفهمني غالباً لكنه استمع لي وأنا ممتن له على ذلك، ممتن جداً.

أنا الآن أتركك يا صاحِ لتكون رجل البيت، فكن كذلك، هذا فراق صعب، لكنه لا يُضاهي مرارة فراق الأم التي كانت أباً وأماً، كانت كل شيء حين ظننت أن موت الأب قد قضى على دراستي، كانت كل شيء في حين بطالتي، كانت كل شيء ولا تزال.

ما إن غادرت غرفتي حتى وجدتها مسمرة عند الباب وقد التفّت دموعها سيَليْن والتقت عند ذقنها، تحمل عُلباً من الحلوى التي تعلم أني أحبها، لقد سهرت تصنعها من أجلي، هذه الحلوى مصنوعة من خليط الدقيق ودموع أمي وحزن أمي وأمل أمي، لا بد أنها وضعت قلبها كله في مكوناتها.

وضعت كل جسدها المنهك بين ذراعي، لم أستطِع تمالك نفسي، لقد غلبتني الدموع أيضاً، الرجال يشعرون يا عالم، الرجال يملكون قلوباً، حتى الرجال يبكون، ما إن يبكِ الرجل فاعلم أن هناك إما حنيناً عميقاً أو عشقاً عميقاً، هنا الكثير من كل شيء، هنا أمي.

أمطرتني بدعائها ورضاها مختلطاً بحشرجة المبكى، لا يا أمي، لا عليكِ، لن أدعكِ تتعبين، لن تُباع المخبوزات على يدك في الشارع منذ الآن، هذا لسان حالي، لكن الواقع شيء مغاير، فقد يتأخر أول راتب نصف عام، وبالتالي قد يتأخر وعدي نصف عام حتى يتحقق، هذا الوطن سريع الاقتطاع بطيء بطء الحلزون حين تأدية الحقوق لمستحقيها.

حملت حقيبتي بعد أن دسست بها عُلب الحلوى، باغتتني أمي بقَسمٍ وبأوراق نقدية كانت ادخرتها من بيع المسمن والبغرير في الشارع يومياً وكذا مِمَّا كنت أقدمه لها من عائدِ علاجات منزلية لمرضى المترفين بالمدينة الذين نادرا ما أتحصل عليهم كزبائن من خلال توصيات بعض الأصدقاء، لقد أخجلتني وأخجلت شعر لحيتي.

أنا رجل في الثالثة والعشرين وما زالت أمي تعطيني النقود، هذه قمة العطاء هكذا تراها وأراها قمة الخجل وقمة العار؛ لأن وطناً أراد أن يجعلني عاطلاً لأطول فترة ممكنة، هكذا يُصنَع الألم في هذا الوطن العزيز.

بعد أن أغرقتني رضى رافقتني حتى عتبة الباب، أصررت على أن تعود للداخل في الحال، فبرد يناير/كانون الثاني لن يرحم جسدها المنهك، لم تُجادل، لكني أعلم أنها كانت تراقبني حتى أختفي في آخر الشارع، هذه عادتها، هكذا كانت تراقب والدي حين مغادرته مسافراً من أجل تجارته بالأسواق الأسبوعية.

انطلقت صوب محطة الحافلات، أمسح بيدي المصقوعة بعض الدمع الذي جمَّده هذا البرد القارس على وجهي، قررت ألّا ألتفت حتى لا تلتقي عيني بعين والدتي فأُحزنها أكثر، لن أستقل سيارة أجرة، ثمنها مُضافٌ لتسعيرة الخدمة الليلة، هذا سيكلف من منظوري ثروة! قيمتها كافية لأسدد بها ثمن تذكرة الحافلة التي ستأخذني لمدينة بني ملال، الكثير من الفقر يعلمك التقشف، يعلمك أن تقاتل لتحيا لا لتعيش بكرامة، هناك فرق كبير.

وقع خطاي على الأرض المبللة وصوت أنفاسي المبحوحة التي تعطي الحرية للبخار المنبعث من فمي المجمد والكثير من الذكريات والطموحات المتبّلة ببهارات المسؤولية على عاتقي والألم، هذا الخليط كان كفيلاً حتى لا ألقي بالاً للمسافة التي تفصل بين بيتنا المكترى وبين المحطة التي تبعد مسيرة شوارع.

وصلت إلى المحطة، ليست مكتظة كما تكون نهاراً، القليل من المسافرين هذا الصباح، ومع قلّتهم لا بد أن لكل منهم قصته، قد تكون طموحة بقدر طموح قصتي وقد تكون أكثر إيلاماً من الحياة التي تركتها خلفي والتي تعشعش بداخلي، في المحطات تلتقي أقدار البشر فتتجاذب وتتنافر، تتشابه وتتناقض.

سددت ثمن تذكرتي سبعين درهماً صوب مدينة بني ملال، سننطلق بعد خمس دقائق فقط، على تمام الساعة السادسة، ولأول مرة أحس أني محظوظ في شيء ما.

لا وقت لدي، أشتري تعبئة عشرة دراهم، أدخلت أرقامها الأربعة عشر حتى لا أفقد التواصل مع مَن هم خلفي.

وضعت حقيبتي بصندوق الحافلة وصعدت على متنها، جلست في أول مقعد شاغر، لم أكلّف نفسي عناء الاختيار، فالحياة صفعتني من قبل جداً حتى تعلمت ألا أكون شديد الانتقاء وأن أرضى بما هو متاح.

هيا يا صديقي -أخاطب السائق في خاطري- انطلق بنا وأرِني ماذا تحمل لي حافلتك؟ وماذا يحمل لي هذا الصباح الجديد؟
(يُتبَع)

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد