أين نحن من ثورة التواصل وإعادة صياغة العالم؟ شذرة من وحي مشكلات التواصل الحضاري

قد تكون نية الغرب، من خلال هذه الثورة وربط العالم ومعمِّريه به، هي تحويط المداخل والمخارج المؤدية إلى صلب قرار الوجود، وقد يكون أيضاً فعله نابعاً عن هوى أملته الثقافة أو الآيديولوجيا أو فلسفة الأرواح، كل هذا يقبله منطق صراع النفوس من أجل البقاء والهيمنة وخلق المستهلكين الأغبياء للتبضع عندهم

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/15 الساعة 02:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/15 الساعة 02:39 بتوقيت غرينتش

العالم تعاد صياغته على وقع موجات التواصل العالمية الكبرى، أو لنقل على أمواج هادرة لتسونامي إعلامي وتواصلي، أتتنا وأتت علينا من كل فج تركناه في نوافذنا "الميكروسكوبية" التي لا ترى إلا بواسطة مجهر دقيق ذي بصر حديد وثاقب ومطلع على السرائر بسلطان العلم والمعرفة.

المفارقة أن سلفاً من علماء قضوا، كانوا بيننا نظروا للبصريات، للفيزياء وللرياضيات؛ ليتشبع بها أبناء بلاد أخرى ويحولوها إلى طرق مختلفة؛ بل ومتناقضة في مراميها للتمكُّن من الأرض والبشر.. أولئك، أحفادهم اليوم في تبعية تامة لتابعي أجدادهم.

عندما نتلقى رسالة، مهما كان حجمها صغيرةً وبسيطةً، وكيفما كان نوعها في الحب أو في الحرب، من هنا أو من هناك، عبر الدش أو من خلال عالم الشبكات الإلكترونية عبر الإنترنت التي جعلناها قِبلتنا الجديدة بإرادتنا واختيارنا، نحو سماء من دون روح- فإننا نتلقى أفكاراً، لا شك في أنها ستتحول إلى سلوك اجتماعي أو ربما إلى عقيدة تؤسس لعلاقة جديدة ولرؤية جديدة للمحيط العام، ومن ثم قد تغير ميولاتنا وتوحدها؛ لنصلي لقِبلة واحدة هي مصدر الرسالة ومنبع مليارات الرسائل.

قوة التواصل المفتوح وغير المقيد بحدود العقل والثقافة، تكون سالبة لحريتنا في تقصي خيط السير الذي راكمته الذاكرة؛ لتنسينا أمام هول المعطيات الوافدة علينا، بتسلط وجبروت ناعم، تعريفنا لذواتنا، ولتُفقدنا التعرف على كينونتنا وأصل وجودنا وأهداف دوام استمرارنا على سطح الأرض.

الثورة التواصلية العالمية الحالية، ما بعد جميع الثورات التي عرفتها البشرية في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، تعزف على إيقاعات سريعة وجديدة خارج نموذج تبادلي متوازن للمعرفة وللأفكار، لم تنجُ منها حتى المشاعر والأحاسيس التي أضحت لها دواليب ميكانيكية وقطع غيار قابلة للتغيير والتعديل حسب أهواء الأسياد.

هذه الثورة هي تتويج لمسار تسارعت وتيرته منذ اكتشاف محركات البخار لإحكام سيطرة المصدر الغربي على باقي جزئيات الحياة الإنسانية، وصقلها في قالب واحد ونموذج واحد ولغة واحدة؛ لإتمام دورة التحكم في برمجة الإنسان/الشيء من الحياة إلى الممات.

تلك ثورة، لم يكن هدفها فقط توزيع المعلومة أو نشر ثقافة معينة من وجهة نظر علاقات إنسانية نافعة بقدر ما كان بُعدها البعيد هو إعادة صياغة العالم في شقه السلوكي الإنساني وفق نمط إنتاجي معين وصارم؛ من أجل ربط حياة سكان الأرض جميعهم بنمط إنتاجي قِيَمي ومعرفي منبعه الغرب، فإذا هو أفلس أفلسنا معه جميعنا وإذا هو نجا نجونا معه؛ لنبقى عبيده المخلصين المقيَّدين المجبَرين على طاعته طوعاً أو كرهاً.

إذا وقع عطب أو خلل في مكونات الفيسبوك أو اليوتيوب، أو في الإنترنت عموماً أو في تطبيقاته المتعددة؛ أو إذا انقطع الربط في أدوات التكنولوجيا كالهواتف مثلاً، التي حولتنا إلى "قطعان معيز"، نقفز مع أول قافز ونرتع مع أول راعٍ يجيد العزف، وننام مع أول نعيق لـ"بوم" شارد في الظلام، حينها حتماً سنصرخ وسنحزن وسنستجدي الغرب؛ بل وقد نقبِّل قدميه؛ من أجل أن يصلح العطب وأن يعيدنا بسرعة إلى الشبكة، بعدما نجح في أن يخلق لنا الحاجة لذلك، حتى أدمنَّا عليها وأصبحت حياتنا من دونها فاقدة للحيوية وللنشاط اليومي.

إنها صناعة القابلية للعبودية في قالب متحضر ومتمدن راقٍ، إنها عملية ثورية هادئة نجح فيها الأسياد الجدد الذين رسموا العالم لمدة قرون وتمكنوا من قلب حياتنا دون رحمة أو شفقة وإدخالنا في شبكاتهم وطرقاتهم الملتوية من دون مراعاة لحاجاتنا الحقيقية و الملحة، حتى تهنا عنا وابتعدنا فيهم أيما ابتعاد وتغربنا أو اغتربنا عندهم بحواسنا وقلوبنا بعدما تم الاغتراب بعقولنا وثقافاتنا.

أخطر الأخطار وأنكاها؛ عندما يغترب ويتغرب القلب والحس؛ لأنهما ليسا منتوجَين مكتسبَين كما العقل، ولأنهما خزان طبيعي لقيم رسخها التاريخ العريق الضارب في وجود الإنسانية والاجتماع البشري في بقعة من اليابسة.

قد تكون نية الغرب، من خلال هذه الثورة وربط العالم ومعمِّريه به، هي تحويط المداخل والمخارج المؤدية إلى صلب قرار الوجود، وقد يكون أيضاً فعله نابعاً عن هوى أملته الثقافة أو الآيديولوجيا أو فلسفة الأرواح، كل هذا يقبله منطق صراع النفوس من أجل البقاء والهيمنة وخلق المستهلكين الأغبياء للتبضع عندهم.

غير أن الذي يستعصي علينا إدراكه، هو وضعنا نحن في حالة كتمان للصوت؛ بل تقطيع جل حباله البيولوجية والفكروية للتعبير عن حجم الضرر الحاصل في خلايا الجسد المتآكلة بفعل اجتياح المرض لمناطق حساسة وهامة مرتبطة بخلايا دماغية منتجة للفهم ومنبهة للمخاطر، وخلايا أخرى ناظمة للمزاج والذهنيات لا تقبل بليونة وسلاسة، ثقافة تشييء الإنسان وجعله مجرد شيء يرمى في المزابل عند نهاية مدة صلاحيته أو ضعف قدرته على الاستهلاك.

إنها ليست نية لمحاربة التقدم، وإنما هي مساءلة عن طرق ملاءمة مخرجات التطور مع مكونات الثقافة الخاصة ومع منطق التاريخ وتراكماته عندنا؛ لأنه في آخر المطاف هذا التقدم بهذا السبيل ليس خياراً نهائياً وحتمياً علينا الانقياد له وفيه من دون منازعة ومن دون ملاءمة.

ولأن التواصل الثقافي والإنساني والقِيَمي أهم معركة من أجل الوجود والبقاء، فإننا نتساءل: ألا يحق لنا أن نفكر في موقعنا نحن في منصات اتخاذ قرار إعادة صياغة العالم على إيقاع ثورة التواصل العظيمة؟

بلى، يتعين مطارحة السؤال بإلحاح والتفكير فيه؛ بغية الوصول إلى إجابة أو إلى صيغة سؤال جديد تجعلنا رقماً، أو حتى أداة ترقيم، لكنها فاصلة مهمة في خلق استقلالية -ولو جزئية- عن مناهج التواصل المعولمة التي لن تقودنا إلا إلى قرار سحيق من العبودية، أقوى بكثير من
استعمارات القرون الماضية.

العبودية الحديثة، مقاومتها صعبة جداً؛ لأن العدو أو الأعداء غير مرئيين ومكشوفين، لهم أشكال وصفات تتبدل في اليوم مرات لا تعد ولا تحصى، بعدد الذرات والإلكترونات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد