ضلال الزمان

هطل الدمع من عينيه فسال على خديه في صمت، أرسل تأوهات من أغوار فؤاده، فراح يسأل نفسه أسئلة تراكمت في ذهنه، في يوم آخر يسأل نفسه نفس السؤال: من أنا! سؤال لم يحظَ أبداً بجواب شافٍ

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/12 الساعة 08:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/12 الساعة 08:06 بتوقيت غرينتش

هذا غريب.. أبصرته في الحزن غارقاً، سار بخطى هادئة وئيدة متسكعاً في أزقة المدينة ودروبها المتعرجة، غريب عن الدنيا، تائه في دار الغربة، غارق في أفكاره المروعة، أفكار تزور خياله من حين لآخر فتختلط بأشباح الليل، هموم عشعشت في قلبه فملأته ألماً وانكساراً وحكمت عليه بالحزن المِؤبد.

كانت نظراته توحي بأنه يبحث عن شيء ينقذه من الإحساس بالغربة، تائه في الشوارع لعله يجد عنواناً يهتدي إليه، لكن دون جدوى، جلس على الرصيف فراح يجول بعينيه ويمر بهما على ما حوله، يتأمل الغادين والرائحين، فيتساءل مستنكراً: ما نحن في نظر هؤلاء يا ترى؟! نحن لسنا سوى لقمة سهلة البلع بل أسماك صغيرة تلتهم من طرف الحيتان وأحياناً تكون فريسة لشباك الصيادين.

هطل الدمع من عينيه فسال على خديه في صمت، أرسل تأوهات من أغوار فؤاده، فراح يسأل نفسه أسئلة تراكمت في ذهنه، في يوم آخر يسأل نفسه نفس السؤال: من أنا! سؤال لم يحظَ أبداً بجواب شافٍ، لكنه أردف قائلاً: أنا طفل بلا عنوان، بلا حب، بلا قيمة، بلا أم وبلا أخ، هكذا أنا ثم لا شيء بعد هذا، أمشي في الحياة تائهاً لا رفيق ولا دليل، أنا ما اخترت قط لنفسي هذه الحياة أنا كنت أروم عيشاً ناعماً رقيقاً.

يا زمان لمَ اخترتني لأكون ضحية من ضحاياك، لمَ أنا بالذات! ليت هذا الزمان ليس زمني، ليت هذه الحياة ليست حياتي.

ثم صاح ونادى بأعلى صوته فلا يجد مَن يلبي النداء، مجرد صياح أصبح هباء منثوراً.

آه يا أمي أين أنت؟ قضيت ما فات من عمري من دونك، أماه متى يكون لقياك، لتضميني بين دفء أحضانك، لتغمريني بالحنان والضياء، لتزيلي عني الهم والأسى، لمَ تركتني لأشباح الدهر ووحوشه الشرهة التي تنهشني بشراهة؟! أمي دعيني أشتكي لك فجائع الدهر وأشكالها، أحاول أن أجد معنى لحياتي فأجد أن حياتي ليست سوى قطعة زجاجة منكسرة يسيل قلبها دماً، ماض قد ضاع، حاضر يكتنفه الغموض ومستقبل مجهول، فهل أنا إذاً حي أم ميت؟!.. في الحقيقة قد لا أكون هذا ولا ذاك.

أمي دعيني أطلعك على واقع أتشاركه مع كل من قذفت به الحياة إلى أركانها القاسية، دعيني أخبرك عن همومنا ومعاناتنا المريرة بين مخالب الشارع التي حولتنا إلى فريسة للاستغلال، نرى من ثياب الذل أشكالاً وألواناً، نعاني أنواع العري والجوع، نحيا مشردين قلقين، ما عسانا نفعل؟!

في الليل نعيش قسوة الوحدة غارقين في دموعنا وأشباحنا المزعجة بينما العالم غارق في نومه وأحلامه الوادعة.

أمي لو أنك رأيت بكاءنا.. ورأيت أطفالاً رفضتهم الحياة، ووجوهاً في غربة وحزن، وقلوباً محترقة ترجو سبيلاً يقودها إلى السعادة فيحررها من ظلم الحياة وطغيانها، وجثثاً تتحدى الليالي والأيام رغم زمهرير البرد في سواد الليل ورغم حر الشمس في بيض النهار، فهناك أطفال كانوا بالأمس بين أحضان عائلاتهم وذويهم واليوم أضحوا بين مخالب الشارع، نفوس عضها الأسى فزادها صبراً وتجلداً وصممت على أن تخوض معركة مع الزمان ولو لآخر أنفاسها.

نحن ضلال الزمان يا أمي يطل علينا القمر من بعيد فيرانا في حزننا وبكائنا فينخرط معنا في بكاء مر كله ألم وحسرة فيظل مفتوح الجفن يفني ليله سهراً علينا ليدفئنا بنوره، وينادي العالم كل يوم:
هل يا ترى من قلب مفتوح أم أن القلوب قد أغلقت أبوابها؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد