ليس إعلاناً سياحياً، ولا دعوة للتنكر للأوطان وتركها للإقامة في تركيا، ولكن حين نعلم أن أكثر من عشرة ملايين عربي ضاقت بهم السبل في بلدانهم بعد هربهم من بطش ظروف تعددت ألوانها وصوت جلدِ أَسْياطٌ عذابها، بات ملزماً أن يعلم هؤلاء أين ستكون وجهتهم بعيداً عن رهبة مصير ربما كان قاع البحار قراره.
تركيا بنكهتها العثمانية، هي أقرب للعرب عن غيرها من البلدان التي باتت تنظر لكل ذي سنحة سمراء بعين الريبة والشك بعد موجة أعمال عنف ضربت مؤخراً مناطق متفرقة من أوروبا وأميركا وساهمت الماكينة الإعلامية بدورها في شيطنة الوافدين من الشرق الأوسط إلى الغرب الأبيض، وهو ما تسبب بارتفاع نسبة جرائم الكراهية ضد المسلمين في 21 بلداً أوروبياً، الأمر الذي دفع بمنظمة العفو الدولية للتحذير من خطورة الإجراءات الأمنية المشددة على المسلمين التي تبنتها 14 دولة على مدى العامين الماضيين، ولكن التضييق ماضٍ دون جدوى.
لم يعد أمام الباحثين عن ملاذاتٍ من خيارات في قارات أُسْدلت أستار أسوارها، وليس فينا من يرغب في أن يعامل أبناءه كمنبوذين يفر عنه أقرانه كما يفر الصحيح عن الجرباء، ولن يحن قلب امرئ على أحوالنا نحن أهل الضاد إلا من آمن بالرسول النبي وجل أصحابه وآل بيته الأطهار.
تركيا وشعب الأناضول فيها، ظن البعض فيهم عند النظر بعيونهم الباردة أنهم أصحابُ قلوبٍ غلظة ومشاعر متبلدة، إلا أن الواقع غير هذا، فهو مجتمع مضياف يحب تقديم المساعدة للغرباء، وفي الآن ذاته لا يرغب المواطن التركي أن يضع نفسه في موقفٍ حرج يظهره وكأنه "أبله" حين يعجز عن فهم كلام المقابل، وهو ما يدفع بالبعض منهم للتهرب منك وهو يتمتم مع نفسه، فهو لا يتحدث غير اللغة التركية ونادراً ما ستجد من يتكلم العربية أو الإنكليزية، ولكنك ستفاجأ من قدر المساعدة التي ستتلقاها إذا ما تحدثت ببعض الكلمات التركية البسيطة، علماً أن نحو ألف كلمة تركية متداولة أصولها عربية، كما أن الكثير من العائلات التركية عاودت مؤخراً استخدام بعض العبارات العربية لما عدوه أنه من ملامح الرقي والتمدن؛ لهذا فتعلم التحدث باللغة التركية لمن يرغب بالعيش في هذا البلد سيكون له نكهته الخاصة، وهو ما أكده المفكر الفرنسي "دوو جالند"؛ حيث قال في مذكراته: "أسرني تعلّم اللغة التركية بشكل كبير؛ لأنّني اكتشفت أنه لا يمكن استيعاب المجتمع التركي إلا من خلال تعلم لغته، ومتعة الاستيعاب ولا يمكن تذوقها من خلال مترجم، وعندما تعلمت اللغة اتضح لي أن المجتمع التركي مجتمع عنيد جداً، إلا أنه يتمتع بكم كبير من الطيبة".
يُتهم الشعب التركي بأنه مادي جداً وبخيل، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فهو حريص على ألا ينفق ماله في غير محله، ولا يميل للبهرجة والإسراف، فترى في الشارع رجال ونساء قنوعين بارتداء ملابس عملية ومتواضعة مهما كانت مراكزهم ومناصبهم مجتمعياً، فطابع الحياة في تركيا صعبٌ نسبياً، وفي الوقت الذي توفر في الدولة كل مستلزمات الحياة بشكل دائم من خدمات في كافة القطاعات، فهي تستحصل في المقابل أجور ضرائب تلزم على مواطنيها دفعُها لضمان انسيابية وديمومة حركة عجلة الحياة في ظل تحديات جمة لا يتسع المكان هنا لذكرها؛ لذا فإن الأمور محسوبة لدى الفرد التركي وهو قنوع بطريقة عيشه، حيث ترى حتى البائع المتجول على الرصيف مبتسم وغير متجهم الوجه، وإن لم يجد سقفاً يحميه من المطر المنهمر معظم أيام السنة تقريباً.
أروع ما يمكن أن تسمعه في تركيا هو صوت الأذانِ بلسانٍ عربي فصيح، والذي يرتفع من المساجد المنتشرة بكثرة في أصقاع البلاد التي تتميز بعمارتها المبهرة وشموخ مناراتها النحيفة، ورغم كل ما قيل بأن الشعب التركي علماني ومنسلخ عن دين أجداده، إلا أنك سرعان ما ستغير من نظرتك حين ترى زخم المقبلين على المساجد، وخاصة يوم الجمعة، فباحات الجوامع تمتلئ عن بكرة أبيها رغم اتساعها، حتى إن الكثيرين يحملون معهم سجاداتهم ليفرشوها على الأرصفة خارج حرم المسجد؛ لينالوا شرف الالتحاق بصلاة الجماعة.
الموروث الديني لإمبراطورية امتدت لقرون عدة ما زال له أثرٌ عميق داخل المجتمع التركي، حتى إن نسبة النساء اللواتي يرتدين الحجاب الأصيل "الجلباب" في هذه البلاد كبيرة جداً، ولم يمنعهن التزامهن الديني من أن يكون لهن دور مهم وبارز في نشاطات سياسية ومجتمعية، وبرز ذلك خلال مشاركتهن وتواجدهن في ساحات التظاهرات الرافضة للانقلاب الفاشل وحتى ساعات متأخرة من الليل طول أيام خلال شهر يوليو/تموز من عام 2016، وتتجلى تلك الصورة بشكل واضح المعالم في القرى والأرياف، وعن هذا قال المفكر الإنكليزي "ويليام مارتن" في مذكراته إن "التركي الأصيل صادق لوعده، حريص على شرفه، مكرم لضيفه، وهذه الخصال الكريمة وغيرها إذا أردت أن تراها فلتذهب إلى الريف التركي الذي ما زال محافظاً على أصالته ورصانته".
وللحديث صلة حين نستشهد بحادثة إشهار إسلام المواطن الروماني الدكتور "محمد ستيفان ليكا"، بعد أن لمس روعة أخلاق المسلمين عبر موقف مر به خلال رحلة سياحة بمعية زوجته في تركيا؛ حيث يقص ما جرى بالقول: "إنه أضاع الطريق ليلاً بينما كان يتجول سيراً على الأقدام في إحدى محافظات تركيا، فالتقى أحد الأتراك وسأله عن عنوان فندق، فأجابه التركي أن لا فنادق في هذه المنطقة، وطلب منه أن يكون ضيفه"، وبالفعل أخذه إلى منزله الذي كان عبارة عن غرفة واحدة يسكن فيه وخمسة من أطفاله وزوجته وأمه، وهو أمر لم يدركه "ستيفان" بسبب الظلام، فقدم التركي لهم العشاء وسمح لهما بالنوم في منزله، وبعد استيقاظه "ستيفان" صباح اليوم الثاني، اكتشف أن المنزل عبارة عن غرفة فقط لا أكثر، وأن صاحب المنزل سمح له بالنوم في غرفته الوحيدة، وخرج هو وباقي عائلته ليناموا خارج المنزل في البرد، فسأله: "لماذا فعلت هذا هل أنت مجنون؟" فأجابه المواطن التركي: "لا لست مجنوناً بل أنتما مسافران، ويجب عليَّ أن أساعدك بما أملك لأنني مسلم".
الأديب والشاعر والفيلسوف الإيطالي "إدموند دا أميسيس" عبّر عن احترامه للمجتمع التركي في كتاباته بالقول: "لا يمكن لأحد على وجه المعمورة إنكار مشاعر الإنسانية والشفقة التي يتمتع بها المجتمع التركي نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، الخير والإحسان صفات مغروسة به، ولا يشقى من لجأ إليهم".
مشاعر العطف والإحسان على الأطفال وكبار السن متوهجة لدى الأتراك، وإن لم تكن ظاهرة بشكل واضح إلا لمن عايشهم واختلط بهم، فترى الكثيرين منهم يتسابقون للوقوف ومنح مقاعدهم حال رؤيتهم لكبير سنٍ يصعد إلى الباص، كما وأذكر حادثة شخصية حدثت معي أني كنت أسير مع أطفالي في منطقة تدعى "شيرين إفلر" في مدينة إسطنبول، فأثار أحد أبنائي غضبي لسبب ما، فصفعته كفاً على جبينه، وإذا بمواطنين أتراك كانوا قريبين مني يصرخون بالقول: "بوليس.. بوليس"، ما دفعني لأقبّل ابني وأعتذر منه؛ كي لا يتأزم الأمر، وتلقي الشرطة القبض عليّ بتهمة إيذاء واستخدام القسوة والعنف ضد الطفولة المقدسة لديهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.