لماذا استعاذ عمر بن الخطاب من جلد الفاجر وعجز الثقة؟

إن الواقع يصارحنا بأن الأنقياء يتخفون، ويجبنون، ويترددون، ويقدمون الاعتزال على الظهور، والانكفاء الذاتي على المخالطة والإلهام.. ويصارحنا بقاعدة موازية هي أن الزائفين والأدعياء والحمقى والمؤذين بل والأشرار يخرجون للنور، يعبرون عن ذواتهم، ويحتكون بالخلق

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/26 الساعة 09:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/26 الساعة 09:30 بتوقيت غرينتش

يروَى عن الفاروق الملهم عمر بن الخطاب أنه قال: (اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة)، كصفعة واقعية على وجوهنا جميعاً.. كحقيقة جلية.

لم يقُل عمر مستعيذاً من تجلد الفاجر، ولا من أن يعجز الثقة، بل من جلد الأول وعجز الثاني، وكأنهما صفتان أصليتان فيهما، لا مجرد حال استثنائية ترد عليهما.

إن الواقع يصارحنا بأن الأنقياء يتخفون، ويجبنون، ويترددون، ويقدمون الاعتزال على الظهور، والانكفاء الذاتي على المخالطة والإلهام.. ويصارحنا بقاعدة موازية هي أن الزائفين والأدعياء والحمقى والمؤذين بل والأشرار يخرجون للنور، يعبرون عن ذواتهم، ويحتكون بالخلق، ويضعون آثارهم، وينشرون عدواهم!

إن معشر الثقات الأنقياء، أهل الحق والحقيقة، يحملون هذه الطبيعة الغريبة اللامنطقية كجزء من تكوينهم، تحمل منطلقات عقلانية مختلفة، ولكنها تشترك في ظاهرة وحيدة، أنهم يهمشون أنفسهم من زاوية ما، يتركون وسط الصفحة، وينسحبون من الجمع والصراع، وكأن شعورهم بالامتلاء يكفيهم، وكأن معرفتهم للحقائق تجعلهم يربأون بأنفسهم عن أن يختلطوا بالزيف والسطحية، أو يعرضوا أنفسهم للآثار الجانبية للصراعات!

تختلف تعليلاتهم، ولكنهم يتفقون تقريباً على أنهم يتركون الحائرين لحيرتهم، والمتصارعين لصراعهم، وينشغلون بصراعاتهم هم الجوانية، ينشغلون بعوالمهم النفسية، وكعبلاتهم، فيصيبهم نوع من الشلل الصامت، نوع من العجز.

لماذا؟!

تختلف الأسباب والظاهرة واحدة، تتنوع المنطلقات والنتيجة مشتركة.

عجز الثقة.. وجلد الفاجر.
فالفاجر لا يمر بهذه الصراعات الداخلية للغرابة!
الفاجر لا يحمل هذه النفس اللوامة التي توحش ضميرها، وجاوز حده حتى صار يجلده صباح مساء تجاه كل فعلة وقبل كل حركة، ولكن الثقة يحمل هذا الضمير الصارخ، تخلي الثقة عن الأصنام الزائفة، ولكنه قد صنع بقلبه معبداً لصنم المثالية الوحشي، صنم (ما ينبغي أن يكون).

تصوره لما ينبغي أن يفعل، ولشكل الإتقان المطلوب داخلياً وخارجياً، على مستوى النية والدوافع والسلوك، هذا التصور لنموذج الفعل المطلوب أقعده عن الفعل نفسه!

فتجده إن أراد الحديث، تخيل كيف ينبغي أن يكون عليه حديثه، وإن أراد الكتابة تخيل النموذج المثالي للكتابة والأسلوب والمعنى، ثم قارن بينه وبين ما لديه وما يمكنه تقديمه بفعل بشريته القاصرة، فيشاهد هذه الفجوة بين تصوره المثالي، وبين إمكانه المتحقق الواقعي، فيجدها واسعة، فيجد نفسه بين طريقين: إما طريق الإحباط واليأس من الذات، وازدراء النفس، وتشوه الصورة الذاتية، أو طريق الانتظار، والتسويف والتأجيل، فيؤجل كل شيء حتى الوقت الموهوم، وقتما يستقر، أو يتميز، أو يتعلم، أو يتزن، أو يتفرغ.
هذا الوقت الذي لا يأتي أبداً!

وكلا الطريقين -طريق الإحباط وطريق التسويف- ينبني على هذا الصنم اللاواعي من المثالية المتوهمة، ويؤدي لنتيجة واحدة: عجز الثقة!

وسيناريو ثانٍ يتمثل فيما أسميه (الإخلاص المقعد)، وهو أن يتهم الثقة الممتلئ بالحقيقة نيَّته، فيرى نفسه مرائياً، معجباً بذاته، مصاباً بالكبر أو نسبة النعمة للذات، أو يلمح من نفسه مسحة استعلاء بالامتلاء، فيقرر أن نيته مدخولة، وقلبه مدنس، وأن التطهير أولى، والتنقية أهم، وتصفية النية وتقويم الإخلاص هما السبيل لئلا يكون عمله وبالاً عليه، فيترك العمل.

شكوكه في نيته أثرت لا محالة على فعله وسلوكه، فترك الجندي ميدانه، وانسحب الفارس من السباق، وتركه لأولئك الذين لا يقيمون اعتباراً لدوافعهم، فيفسدون بأريحية!

فلا يكون في الميدان صوت سوى أصداء المشوهين والأشرار والمفسدين الذين لا يكترثون بدوافعهم ولا يضيعون طاقاتهم النفسية في التساؤل عن مقاصدهم، فلا يكون للحقيقة صوت مقابل، ولا يستمع الحيارى إلا لصوت الزيف، ولا يجد من يبحثون عن الهدى والإرشاد والإلهام أية خريطة فيتخبطون، ويسيرون على ذات سبيل الإحباط أو التسويف، أو ربما يتوهون، وينتمون لأحد صفوف الزيف لخفاء البديل!

يتلمس الحائرون بصيص نور لطريق الحقيقة فيجدون الثقات قد تخفوا واستتروا لئلا يعرفهم الناس فيفسد إخلاصهم ويتلوث تجردهم، وذاك نوع آخر من (عجز الثقة)!!
وسيناريو ثالث..
إن الأنقياء جبناء، نعم هم بشر، يخافون الصراع والجراح والإصابات، يبحثون عن منطقة الراحة، والخروج للنور يعني التعرض للنقد حيناً والتسخيف والتسفيه حيناً، والمناهضة والمجادلة حيناً، وربما الإيذاء والابتلاء أحياناً، فيعمدون إلى مساحاتهم المستورة من الظل، يختبئون.

يختبئ أحدهم من النقد، وآخر من البلاء، وآخر من استثقال طول الطريق، وآخر يختبئ من نفسه، يختبئ من جماله الذاتي، يرعبه نور بهائه هو.

يري نفسه بحراً فائضاً لو لم يلجمه لامتد بريقه حتى صار يصعب عليه احتواؤه!

نعم يا سادة.. إن بعض الأنقياء يخشى إمكاناته لو تم تفعيلها، وطاقاته لو أطلق لها العنان، يخشى المجهولية التي تتغلف بها تحقيقه لإمكاناته، فالطريق مظلم ومخيف؛ لذا يعمد إلى طريق اجتماعي معروف فيسلكه، ويعمد إلى قناع اختاره القطيع فيضفي عليه تعديلات ورتوشاً تميزه ثم يرتديه.

فإن أقصى ما يمكن أن يحدث معروف ومحدود، ويملك من الأدوات ما يمكنه تناوله، الطرق المعتادة مضمونة آمنة مأهولة، أما طريق تحقيق الذات وتجلي الجمال الجواني وتفعيل الإمكانات فهو طريق مملوء بالمغامرة والمقامرة والاحتمالات.. مظلم مجهول.. مخيف!

لذا يكتم بعضهم جماله ويكبت إمكاناته ويطرق طريق القطيع؛ لأنه يخاف نفسه، ونتيجة وحيدة تتحقق هنا أيضاً: عجز الثقة!

وسيناريو آخر..
يكون فيه الثقة ممتلئاً بشدة، متعدد الإمكانات، محتشداً بالمواهب، (سبع صنايع والبخت ضايع) طوعاً!
فإمكاناته تحيره، والطرق كلها تبدو أمامه شهية وممكنة، وكل سبيل يرى ميزاته وعيوبه، وربما يملك من القدرة على رؤية التفصيلات الصغيرة ما يجعله يغرق في الموازنات والمقارنات، فلا تترجح لديه كفة، أي أنه لأن كل طريق ممكن في عينه، وسلوكه لأي طريق يعني إعدامه لغيره من الطرق، فهو يقف على منعطف الطرق متحيراً مشلولاً.

ربما يسلك خطوات في سبيل منهم، ثم يتذكر طريقاً آخر، أو يجد زقاقاً جانبياً لتفعيل إمكان آخر فيه فيسلكه، ويمضي به بعض الوقت، ثم يتذكر طريقاً ثالثاً، فيترك طريقه ليعود إليه.. وهكذا تضيع طاقته في التشتت، ويهدر جهوده في التمزق بينه وبينه، يحيا الاحتمالات ولا شيء يتحقق، ينغمس في الأحلام ولا خطوات معتبرة.

نعم.. هو ذاك الشخص المميز جداً الذي يعترف الجميع بتميزه ومواهبه، ولكنهم جميعاً يسبقونه، وهو ذلك الغارق في عالم الموازنات والاحتمالات، الذي سقط في ثقب أسود يلتهم كل طاقته من الحيرة الجوانية، والتفلسف الذاتي، والتمعن في استنقاذ (القطط الفطسانة) في كل شيء!

يغذي تردده وحيرته بنفسه عبر رؤيته وتصوراته المتعمقة التي فقد لجامها فتطرفت حد الوهم!
يا الله.. لو كان مصاباً ببعض التقلب المزاجي، فيمكنك حينها تخيل مأساته، نعم.. هو هذا الإنسان الذي ربما في عوالم موازية سلك في كل عالم منها طريقاً واحداً فقط، لفاق الجميع، وهكذا ربما هو يعلم، لكنه هنا في هذا العالم الواقعي المتحقق، تناسلت داخله الرؤى والأحلام والتخيلات، وتبعثرت طاقته بين الإمكانات والاحتمالات والموازنات.

ونتيجة وحيدة تنبت في الأفق: عجز الثقة!!

كم من جميل يعلوه تراب الركن المهجور!
وكم من لامع يطفئه صدأ النسيان!
وكم من موهوب يضمر بعدم الاستخدام!
وكم من ثقة عاجز!
وكم من فاجر متجلد.. وثاب مقدام.. ممتلئ بالهمة!
وكم من أحمق لا يتوقف ضجيجه!
وكم من ممتلئ منكفئ على نفسه يكتم علماً ويدخر نوره!

يستعيذ الفاروق من تلك الحقيقة (جلد الفاجر وعجز الثقة)، التي إن أعاذ الله منها الكونَ، لاعتدل واتزن، ولربما صار مكاناً أفضل للعيش.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد