هناك تفسير مثير لنوعية الثقافة قدَّمه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي، وأطلق عليه "إجابتان عن الفراغ الكوني"؛ حيث يذكر أنه حين يكون الإنسان في حالة من العُزلة والوحدة، ينتابه شعور بالفراغ، وبحسب طريقة كل إنسان في ملء هذا الفراغ تتحدد طبيعة أو نوع ثقافته، وهناك طريقتان لملء هذا الفراغ؛ إما أن ينظر الإنسان إلى السماء أو ينظر إلى الأرض، بمعنى أنه يتأمل الحياة ولكن من زاويتين مختلفتين، فالإنسان الآري ينظر إلى الأرض، أي يتمعن في الأشياء من حوله، والإنسان السامي ينظر إلى السماء، أي يتمعن في الأفكار من حوله، وهنا تتجلى ما يسميها مالك بن نبي الظاهرة الدينية؛ حيث يعتقد أنّ أهم ما يميز الجنس السامي أو العقل الشرقي، هو تمدد عالم الأفكار فيه على حساب عالم الأشياء، على عكس العقل الآري أو الأوروبي، وهذا له أسبابه برأيه.
أرض المشرق تعرضت للوحي المباشر بثلاثة أديان سماوية والعديد من الأنبياء، مما أدى لتمدد عالم الأفكار في العقل السامي؛ لذلك يلجأ للتأمل في الأفكار كناية عن البحث عن الحقيقة، في حين أنّ أوروبا كانت محرومة من الظاهرة الدينية، أي الوحي المباشر، مما جعل عالم الأشياء هو المسيطر في العقل الآري، وأعطاه مهارة ميكانيكية في التعامل مع المادة، بالتالي وبحسب مالك بن نبي أيضاً، ينشأ عن ذلك نموذجان من الثقافة: الأولى ذات جذور تقنية "الآرية" والثانية ذات جذور أخلاقية وغيبية "السامية".
انطلاقاً من تفسير مالك بن نبي لتحديد الفرق بين العقلين، نستطيع القول إنّ العقل الديني الذي يعتمد على الغيبيات من الأفكار والروحانيات وما وراء الطبيعة أو الحياة، كان من نصيب أهل الشرق، على عكس العقل الآري الذي تبنى التعامل مع الأشياء وبالتالي امتلك خبرة في التجارب والمنطق العلمي في ممارسة مهارة تفسير الواقع؛ لذلك نلاحظ أنّ كثيراً من سكان المشرق يفسرون الواقع بطريقة روحانية تعبّر بشكل أو بآخر عن تمدد عالم الأفكار لديهم على حساب عالم الأشياء، فمثلاً عندما ينقطع المطر وينتشر الجفاف، يكون ذلك عقاباً من الله على ذنوب اقترفوها، وعندما يعمّ الخير والأمان وغيرهما فهذا دليل على الرضا الإلهي.
بمثال آخر أكثر وضوحاً نستطيع تشبيه العقلين السامي والآري بفلاحين اثنين، أحدهما يعتمد في زراعته على الريّ، وهو الآري، والثاني يعتمد على البعل، أي ما ترسله السماء من أمطار وهو السامي، بمراجعة بسيطة لحياة الفلاحين، نستطيع أن نستشف أنّ الفلاح الذي يعتمد في زراعته على الريّ يتركز اهتمامه بالزراعة من خلال تركيب الآلات المناسبة، ومدّ الأنابيب اللازمة لريّ أرضه، ولا يفكر كثيراً بصلاح أعماله أو سوئها، وكيف أنها ستؤثر على محصوله، بينما الفلاح الذي يعتمد في زراعة أرضه على البعل، يتحاشى الوقوع في المعاصي والذنوب، ويمارس الكثير من العبادات التي تقربه من الله، ويلجأ للدعاء كثيراً حينما يتأخر المطر، حتى وإذا تأخر أو انقطع المطر لسبب ما، قد يتهم نفسه بالتقصير في واجباته أمام الله، فعاقبه بتلك الطريقة حين منع عنه الماء.
ما أود طرحه الآن هو الآتي: أظن أننا متفقون أن الواقع الخارجي هو واحد، بينما الاختلاف يكون في كيفية رؤيتنا وتحليلنا لهذا الواقع؛ لهذا تتعدد وجهات النظر التي تفسر الحركة الخارجية لمجموعة الأحداث، سواء بطريقة العقل الآري أو السامي، بحسب تفسير ابن نبي لكل منهما، أو ربما بطرق أخرى، وخصوصاً لما يجري في المنطقة؛ حيث إنّ المجريات واحدة وظاهرها أنها عبارة عن مجموعة تحالفات ضد مجموعة أخرى من التحالفات، طبعاً بغرض تقارب المصالح أو تشاركها في الجهتين.
ثم بالإسقاط على تفسير مالك بن نبي نلاحظ فعلاً أنّ النبوءات تشغل بال الكثيرين هنا في الشرق من كافة الأديان والأعراق، لدرجة أنهم يعتمدونها كخطوط عريضة تفسر لهم هذا التعقيد الذي يعتلي الواقع من صراعات وتحالفات متداخلة، وأود التطرق لبعضها الذي يشكل قاعدة تفسيرية عند الأغلبية.
لنبدأ بنبوءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: "ستصالحون الروم صُلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً فتنصرون وينصرون"، إن أردنا تفسير حديث النبي محمد بالبساطة المنتشرة بين عامة الناس نقول: إنّ العرب المسلمين سيتحالفون مع الروم والذين يمثلون اليوم أوروبا وأميركا وسيحاربون عدواً مشتركاً، وبحسب نهاية النبوءة هنالك نصر لهذا التحالف، وذلك التفسير لم يأتِ من الفراغ؛ لأن التحالفات في المنطقة فعلاً منقسمة إلى قسمين، روسيا وإيران والصين في الطليعة ضد الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا والعرب والأتراك، والمتابع للساحة السياسية في هذا الوقت يلاحظ فعلاً أن المجريات بدأت تأخذ مناحي عسكرية بين الدول المؤثرة، وكي لا أتقمص شخصية المتنبئ، ولكن بقراءة موضوعية للواقع في المنطقة الآن سنعلم أنّ السلام هو أبعد الخيارات المطروحة.
نبوءة أشعيا التي تقول: "ها إنّ دمشق تُزال من بين المدن فتكون رُكاماً من الأنقاض"، فهل تلك المعارك التي ستكون في سوريا هي بداية حرب عالمية ثالثة؟ هل ما نراه اليوم من تطورات ما هو إلا البداية فقط؟
أما نبوءة سفر الرؤيا التي تقول: "فَإِنَّهُمْ أَرْوَاحُ شَيَاطِينَ صَانِعَةٌ آيَاتٍ، تَخْرُجُ عَلَى مُلُوكِ الْعَالَمِ وَكُلِّ الْمَسْكُونَةِ، لِتَجْمَعَهُمْ لِقِتَالِ ذلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، يَوْمِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَجَمَعَهُمْ إلى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ هَرْمَجَدونَ"، هي الأخيرة في سلسلة طويلة من النبوءات الإسلامية واليهودية التي تعطي طابعاً دينياً لما يجري من أحداث في الواقع، وتلامس عواطف الناس من جميع الديانات على اختلاف انتماءاتهم وأديانهم.
الأيام القادمة كفيلة بتصويب تلك النبوءات أو تخطيئها، ربما تفسير المفكر مالك بن نبي يملك قدراً من الصحة؛ حيث نحن تسيطر على ذهنيتنا فعلاً تلك الأفكار، نعم قد لا تكون منطقية وواقعية في كثير من رواياتها، لا أدري! ولكن ألمس شيئاً من الحقيقة فيها أيها السادة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.