(1)
أدركت أن الغد هو الموعد المضروب للمغادرة، أمي اختصرت بيتنا في مجموعتين؛ الأولى حقائب صغيرة نسبياً نحملها معنا، والأخرى صناديق كبيرة تقف شاحنة بالأسفل لنقلها.
أبي ينتظرنا هناك في المهجر، جارتنا الست فريدة فعلت نفس الأمر، وزوجها ينتظر مع أبي، نحن عائلتان متجاورتان وصديقتان.
انتهزت فرصة انشغال أمي بما تُعد وخرجت إلى شوارع السويس، قلت هو الوداع الأخير، مشيت هائماً على غير هدى، لكن تعمدت أن أفتح عينيّ على آخرهما، كنت أريد أن أختزن في ذاكرتي أكبر قدر من مشاهد مدينتي التي وُلدت بها وأحببتها، والتي بات علينا الآن فراقها، تنفيذاً لقرار الدولة بترحيل أهالي مدن القناة إثر هزيمة يونيو/حزيران 67، وبعد أن باتت في متناول مدفعية العدو الصهيوني وطائراته.
كنت أصافح المدينة بعينيّ، شارع الشهداء، مسجد الشيخ حافظ سلامة، النافورة، مبنى المحافظة، الكورنيش، شارع النمسا، كل هؤلاء كانوا أصدقائي، يخدعك من يقول إن المكان جماد لا روح له، لقد ودعتهم كلهم بحرارة، والأهم أنهم بادلوني ذلك، ولم أكن مختلاً عقلياً، لكنني كنت طفلاً أقل قليلاً من الحادية عشرة من العمر، ثم وجدت شاحنة عسكرية، وكان معي قلم رصاص فكتبت عليها "ولينصرن الله مَن ينصره"، وقُبيل المغرب عدت إلى بيتي محملاً بألم الوداع.
في اليوم التالي كانت شقتنا فارغة تماماً إلا من الذكريات، بعد أن حملنا آخر حقائبنا، كانت أمي تغلق الباب حين كذبت عليها بسذاجة وقلت نسيت شيئاً، وما من شيء كان موجوداً، لكني دخلت إلى الشقة وخررت على الأرض ساجداً أقبّلها، وعدت مسرعاً حتى لا يُكتشف أمري.
(2)
بعد نحو ربع قرن كررت ذات المشهد، هذه المرة في سراييفو حين كانت على وشك السقوط، الوضع العسكري كان منهاراً إلى أقصى حد، والعالم كعادته رفع يديه عن الجاني في انتظار أن يفرغ من مهمته، كنت أجلس حزيناً في غرفتي البائسة بفندق هوليداي إن، وقد فقد نتيجة الحصار كل سمات نجومه.
كنت أعتقد أنها الأيام الأخيرة لسراييفو، وأن الميليشيا الصربية على وشك الاقتحام والولوج إليها، لكن وجدتني أتيمم وقد نفد ما بحوزتي من ماء وأصلي ركعتين وأجلس وكأني في حضرة شخص عزيز، أواسيه وأشد على يديه، وأقوي عزيمته، وأتعهد له أني سأبقى مخلصاً مهما حدث.
خرجت لأكمل عملي الصحفي وكأني ألقي النظرة الأخيرة على شوارعها، لم يمضِ يوم أو يومان إلا وتصلنا أنباء عن انتصارات للقوات المدافعة عن المدينة تجهض محاولات محاصريها لاختراقها، ثمة أمل يتجدد بأن تبقى عصيّة على الهزيمة. اعتبرت أن ما جرى إنما رسالة لي، جزء من حوار متبادل بيني وبين المدينة، تلك التي يدَّعون أن لا روح لها.
(3)
إذا كنت بالغاً فإنك لا تقع في حب أحدهم؛ لأنه يرتدي ملابس غالية الثمن، أو يضع عطراً مميزاً، أو يحمل شهادة رفيعة؛ شيء غامض يجذبك إليه، وعندما تحار في التفسير تقول إني أحبه لروحه، وهو نفس ما يقع مع الأمكنة، أنت تهيم بواحدة على رغم أنها تبدو لآخرين عادية، بل ربما أقل من ذلك كثيراً، ولا تعرف سبباً لذلك.
لماذا يهجر بعضهم في أوروبا مدنهم ويتركون وظائفهم ويقررون الهجرة إلى بلد إفريقي أو آسيوي بسيط، يعيشون فيه حياة خشنة بعض الشيء متنازلين عن حياتهم التي يتمناها أهل العالم الثالث، أولئك الذين تبتلعهم البحار وهم يحاولون الوصول؟
(4)
في المقابل، فإن الأماكن تفعل معك تماماً نفس الأمر، قد تقع في غرامك، وقد تكرهك، وقد تتعامل معك ببرود أو حيادية، بغض النظر عما إذا كنت ثرياً وسيماً أو فقيراً محروماً من الجمال. ألم تلاحظ أن بعض الأماكن قد تبتسم لك، قد تغازلك، وتقع في حبك، ولا تتردد في أن تخبرك به، تقول لك فجأة أحبك يا هذا، فترتبك وتتعثر في الطريق، فإذا ما غبت عنها في سفر طويل ثم عدت فإنها تعانقك، أو تلومك لغيابك؟ من قال إن المدن حجارة، لا روح لها؟
(5)
عندما مر علي شادي أبلغني الأيوبي أن وقتي لا يكفي لاكتشاف بهاء المدينة، وأننا سنكتفي بحي واحد، تشبثت به وهو يقود دراجته النارية في شوارع أثينا، كنت أخاف السقوط وكان هو يكتم ضحكته، حتى وصلنا حيّ موناستيراكي في وسط العاصمة، حيث تتوسطه ساحة تحمل نفس الاسم، ويحيط به عدد من الأحياء التاريخية التي لا تزال تضمّ بدورها أعداداً كبيرة من البيوت القديمة.
موناستيراكي، تعني الدير الصغير، وقد وجدت كنيسة صغيرة بوسط الساحة كانت قديماً جزءاً من الدير، فيما هناك أيضاً مسجد جيستاراكي، الذي بناه عام 1759 مصطفى آغا جيستاراكي حاكم أثينا العثماني في تلك الفترة، والذي ظلت مئذنته قائمة حتى عام 1821 حين انطلقت الثورة اليونانية ضد الإدارة العثمانية، وتحول المسجد إلى مستودع ثم سجن حتى عام 1915 حيث تمّ ترميمه، ومنذ عام 1981 يستعمل متحفاً للخزفيات والمنحوتات اليونانية التقليدية. قرب الساحة هناك البازار؛ حيث تباع الكثير من الأغراض والكتب القديمة والجديدة والمنتجات السياحية.
من الساحة يمكن أن ترى من بعيد قلعة الأكروبوليس، أهم آثار اليونان القديمة، وترى الكنيسة البيزنطية في إحدى زواياه، فيما يظهر المسجد العثماني في وسطها، وحول الساحة تظهر المنازل المعروفة بالمنازل الكلاسيكية الجديدة.
قرب المسجد من ناحية الأكروبوليس هناك جدار لمكتبة أثينا التي بنيت عام 132 بعد الميلاد كهدية من الإمبراطور الروماني أدريانوس لمدينة أثينا. على بعد 150 متراً من ساحة موناستيراكي هناك ساحة أفيسينياس التي تحتوي على سوق للأثاث والأدوات المستعملة منذ عام 1910.
قال لي شادي إن هذه المنطقة كان فيها العديد من الخانات التي تحولت لاحقاً إلى فنادق. وكانت تنطلق منها العربات التي تجرها الحيوانات إلى مختلف المناطق. واحتوت على معظم الصناعات آنذاك، مثل الجلود والحديد والخشب والحصير والنحاس. وعرف سوقها أو البازار باسم آخر هو "يوسوروم" وهو أول تاجر يهودي للأشياء المستعملة كان قد جاء من مدينة إزمير وأقام في المنطقة عام 1863.
ولذا وبعد أن تحولت أثينا إلى عاصمة لدولة اليونان الحديثة عام 1834 اكتسبت هذه المنطقة والأحياء التي في جوارها أهمية كبيرة؛ حيث كانت أول نقطة ينزل فيها أهالي المناطق اليونانية الأخرى عند قدومهم للعاصمة.
بالله عليك كيف لا يفتن المرء ويقع في حب المكان المحمل بالتاريخ؟
(6)
كنت مرة قبل سنوات في حي تقسيم الذي أحب التردد إليه، عبرته إلى شارع الاستقلال، ومن ثم واصلت السير حتى بلغت الحي القديم، لم أكن في حاجة إلى أكثر من بضع دقائق لأقرر ألا أسكن غير هذا الحي عندما أزور إسطنبول.
حكى لي عبد السلام فرح الحكاية، قال: إن غَلَطَة هو أحد أعرق أحياء المدينة، كان معقلاً للتجار الإيطاليين تحديداً والأوروبيين عموماً قبل وصول العثمانيين إلى القسطنطينية، حتى إن الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثامن باليولوج قد منحه إلى جمهورية جِنوة الإيطالية بعد دعمها له أثناء الحملة الصليبية الرابعة في القرن الثالث عشر؛ ليصبح الحي مركزاً للتجارة، وليُبنى فيها بعد نحو قرن برج غَلَطة الشهير بأيدي الطليان.
في القرن التاسع عشر، أصبح معظم سكان الحي من اليونانيين والأرمن، الذين تدفقوا إلى العاصمة بعد سيطرة الخلافة على اليونان وأرمينيا آنذاك، ولذا فالحي يزخر بكنائس من مختلف المذاهب المسيحية حتى اليوم، وتعود معظم المباني الموجودة به اليوم إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث بُنيت من جديد إثر الدمار الذي لحق بالمباني الخشبية القديمة عام 1870 من جراء حريق كبير أدى لفقدان ثلاثة آلاف مبنى على الأقل، وقد بنيت معظمها منذ ذلك الحين على النسق الأوروبي؛ لتملأ المحال التجارية والمطاعم والمقاهي الطوابق الأرضية والأولى فيها، في حين استحوذت السفارات والقنصليات والمراكز الثقافية على الأدوار الأخيرة.
غَلَطة باتت معقلاً للأتراك ذوي الثقافة الأوروبية، وبسهولة يمكن أن تشهد هذا التداخل بين القديم والجديد، بين الحداثة والأصالة، بين الهوية الإسلامية والغربية، بل إن هذا التداخل مصدر متعة لأمثالي الذين يدّعون أننا يمكن أن نعيش معاً مهما اختلفت أطيافنا.
سِر في غلطة أينما شئت، ستحملك أزقتها صعوداً وهبوطاً، وسيخيل إليك أنها حي فقير بسيط، غير أن وراء كل ركن أمراً ما، أو حكاية ما، أو سراً ما، لكنها أبدا ليست بسيطة كما يعتقد الرائي.
(7)
كنت محشوراً في واحد من تلك المقاهي التي يتجاور الناس فيها على نفس الأرائك، فيما حشود من الناس من جنسيات متعددة تمر بصعوبة من الزقاق الذي يقع به المقهى، العجوز التي كانت تجلس بجانبي لم تأبه لانشغالي بالكتابة، وسألتني فجأة: بالله عليك لماذا تأتون إلى هنا؟ ما الأمر غير العادي الذي يجعلكم تتركون بلادكم وتسافرون آلاف الأميال للتسكع في طرقات كهذه؟ احترت طويلاً كيف أشرح لها أنها اعتادت الجمال حتى اعتبرته أمراً مألوفاً عادياً.
باشتشارشيا تعد مركز المدينة التاريخي والثقافي، هذا المكان أسسه في القرن الخامس عشر عيسى بك إسحاقوفيتش عندما أسس سراييفو، والكلمة تعني بالتركية السوق الرئيسية، قطعة فنية ساحرة، منحوتة بإتقان، كأن عيسى جلب كل الفنانين المهرة، كأنه صنعها على عينَيه.
باشتشارشيا، حي العاصمة القديم، وحبي القديم، وقعت عيناي عليها أول مرة عام تسعين، ومنذ ذلك الحين وأنا مغرم.
السائحون طوافون في أزقتها ليل نهار، البهاء العثماني يغلب بهيئته المميزة، زينة الحي هي تلك المساجد المتناثرة هنا وهناك بمآذنها العالية الدقيقة وقبابها الواسعة، ناهيك عن جامع الغازي خسرو بك، وبرج الساعة، وسوق الحرف، والسبيل، ومطاعم الأكلات البوسنية الشعبية.
كل زقاق هو عناق، تسير وكأنك تعيش في رواية حب جميلة، كأنك تقلب صفحة من تاريخ عريق جمع الكثير من فنون العمارة التركية القديمة، تلك الأرضية المبطنة بأحجار مستطيلة صغيرة، هذا الطوب الأحمر، هذه الأسقف المائلة، هذه الطيور التي تسكن السبيل بمائه المتدفق، هؤلاء الحرفيون الذين يصنعون بأصابعهم الذهبية تلك المشغولات التقليدية النادرة، وكثير من الشقراوات، وبين كل مقهى ومقهى.. مقهى.
(8)
في الدنيا أمكنة كثيرة جميلة يمكن أن نحكي عنها فلا نملّ، لكن المشترك فيما ذكرت أنه كان الحب من أول نظرة، حتى هذا القانون قائم مع الأمكنة.
(9)
أول مرة سمعت محمد عبده يشدو بأغنيته الشهيرة "الأماكن" كانت في سيارة عمرو عبد الحميد في أحد شوارع موسكو، كان مغرماً بها، بالمدينة والسيارة والأغنية، منذ ذلك الحين وأنا أنصت للأغنية باهتمام، فكلماتها تؤكد نظريتي أن للأمكنة روحاً، وأننا قد نقع في حبها فضلاً عن أن "الأماكن كلها مشتاقة لك"!
(10)
أليس عجيباً أن كل إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة؟ فهل يدل هذا على شيء إلا أن خيال الجنة منذ آدم وحواء، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية؟ هذا ما خطه مصطفى صادق الرافعي في كتابه "من وحي القلم"، أما إبراهيم نصر الله فيذكر أن هناك أسطورة فلسطينية تقول إن الله يخلق الإنسان من ترابَين، تراب المكان الذي ولد فيه، وتراب المكان الذي سيموت فيه.
(11)
قال ابن العربي: المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.