طوبى لمن لا حلم لهم

ولأن تلك الأنا لا تقبل الهزيمة راحت تلوم كل من يحيط بها، وتجد الأعذار لتدافع عن أناها، وتحميها من "الناس" بكل ما وُهبت من قوة وطاقة، قد تكون أنا "الأنا" مجنونة أو واهية، أو ربما حتى مجنونة بالوهم، تدعي السلامة والخير، وهي لا تستطيع رؤية وجهها في المرآة خذلاناً

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/21 الساعة 02:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/21 الساعة 02:30 بتوقيت غرينتش

يأتي نور الفجر مباشرة بعد أشد الأوقات حلكةً وظلاماً ليلاً، كذلك القلوب، فوعد الله قائم "إن بعد العسر يسراً"، "ولسوف يعطيك ربك فترضى"، وعد بالعطاء حتى الرضا، ووعده محقق لا محالة.

أعلم جيداً أنه يصعب على النفس أحياناً أن تبحث عن اللاشيء في الفراغ، وهذا ما نعيشه جلنا، لكن هناك ذاك الصراع، تحدث عنه الدكتور مصطفى محمود في كتابه الأحلام فقال: "إن الصراع يجري في أعماق قلبنا، وعلينا أن نفتح قلبنا على مصراعيه، ونفتش أرجاءه؛ لنعرف كيف نحب وكيف نكره، وكيف نثور، وكيف نتألم، وكيف نخاف، وكيف نرقص على حبال هذه المشاعر كلها.
علينا أن نفك زنبرك دماغنا لنعرف كيف نملأه، ونفك تروس عواطفنا لنعرف كيف تتلاءم وكيف تركب بعضها البعض.
علينا أن ننزل إلى غرفة الآلات لنعرف كيف تدور هذه الماكينة التي اسمها النفس، وكيف تعطب، وكيف يصيبها القلق، وكيف يكون إصلاحها".

فالأصل أن نبحث ونبحث ونبحث، حتى نجد، وقد لا نجد، لكن محاولة أن تجد سَتُريك طريقك نحو النور.

فأن تفقد نفسك في تيه لا ملجأ لك فيه ذاك أقسى ما يمكن أن تتعرض له، مرحلة البحث عن اللاشيء في الفراغ كما أسميها هي تلك المرحلة التي تسكننا ولا تنوي الرحيل، تطيل المبيت، والأنا عن فقدها راغب، أن تفقد نفسك فأنت فاقد كل شيء.

لا الزمان يصير زماناً، ولا المكان يظل مكاناً، تفقد الأنا نفسها يا سيدي وتضعها في ملاهٍ ترجو لو كانت ملاهي ليلية حقيقية.

تضيع في ثغرة لا قدرة لها الآن على التمييز بين الواقع والوهم، تفقد النفس نفسها ومن معها.

ولأن تلك الأنا لا تقبل الهزيمة راحت تلوم كل من يحيط بها، وتجد الأعذار لتدافع عن أناها، وتحميها من "الناس" بكل ما وُهبت من قوة وطاقة، قد تكون أنا "الأنا" مجنونة أو واهية، أو ربما حتى مجنونة بالوهم، تدعي السلامة والخير، وهي لا تستطيع رؤية وجهها في المرآة خذلاناً، ومع ذلك تجدها مصممة على عدم فقدان أمل تحيا من أجله، لكنها الأمور كما شاهدتها تحدث وتسوء أكثر.

أحياناً ترجو لو أنها تفقد عضواً من أعضائها، تفقد الملموس، ولا تفقد ما لا يعود، ولا يعوض.

ذاك الصراع، صراع طويل الأمد يجعلك تخضع وتخنع، تعجز ولا تستطيع، إحساس العجز هذا يرهب ويسقط في غيبوبة الأحلام.

طوبى لمن لا أحلام لهم، طوبى لمن فقد لذة النوم، لذة الحب، ولذة العيش.. من فقد لذات كثراً في لوم الآخرين وحماية ما لا يستحق الحماية.

وفي فقرة أخرى من كتاب الأحلام تجد المحمود يقول:
"الأرض التي نعيش عليها واسـعة والخيـر كثيـر والعمـر طويـل.. ومع ذلك فحياتنا سـلسـلة من المشـاكل.. مـا السبب؟
السبب أن كل هذا لا يعنينـا.. إن ما يعنينا فقط هو رغبتنـا، ورغبتنا مثل النافذة الضيقـة تطل دائمـاً على ما يملكه الناس، وتتشوَّف دائمـاً إلى أشيـاء ليسـت في حوزتنـا.. ولا في إمكاننـا.. إن كل ما في أيدينا يفقد سحره.. ولا يسيل لعابنا إلا على أشياء لا نملكها.

إن رغبتنا هي التي تصنع المشكلة، وتخلق تعارضاً بين ما نريده وبين ما هو موجود، إنها هي التي تحفر الخندق الواسع بين الحلم والحقيقة، هي التي تلح على الواقع طالبة تغييره بواقع آخر في خيالنا.

وهي لا تفهم، ولا تناقش، وإنما تلح وتلح، ولا تتعب ولا تقبل التعقل.
والعقل أمام نيران الرغبة التي تحرقه لا يجد مفراً من مواجهة الواقع وتدبر الوسائل لتغييره وتكييفه ليصبح مرغوباً وهو يحتاج لوقت، والرغبة تصرخ وتريد كل شيء في الحال، والواقع جامد ولا يطاوع التغيير بسرعة، والإمكانيات محدودة والحرية محدودة.

والزمان والمكان والظروف والبيئة والناس قيود تضيف إلى كاهلنا أثقالاً، وتجعلنا قليلي الحيلة أمام رغباتنا، إننا نصطدم في كل لحظة بما نرغب، وهذا هو سر الإشكال في الحياة.
وهذا الصدام هو نواة القلق؛ لأن معناه أن هناك شيئاً ما ينقصنا، وهذا الشيء غير موجود، وقد لا نستطيع إيجاده، وهذا يضعنا أمام واحد من حلين؛ إما أن نتنازل عن رغباتنا فنحرم من شيء نحبه، وهذه نهاية مؤلمة، وإما أن نتنازل عن واقعنا فننتحر أو نجن، وهذه نهاية أكثر إيلاماً.

ومن هنا ينبت الخوف والتوتر والتناقض والألم، ومن هنا ينبع الإشكال، ومن هنا تصبح حياتنا سلسلة من القضايا، وسلسلة من المآزق. "

أعلم يا سيدي أنك تظن ما أظن، ولكن سأنهي حديثي لك في كلمة واحدة: أنت شمعة لا نسخة لها، تلك الشمعة التي لطالما تضيء طريقنا بنورها العذب، لكن أتساءلنا يوماً كيف تضيء هذه الشمعة؟ أفهمنا يوماً أنها تذوب حرقاً لنعيش نحن شوقاً بنور لا غنى لنا عنه؟
تلك هي الشمعة، تلك هي أنتَ!

أعلم كما تعلم أنت أيضاً أنني أعلم، أنك سيد نفسك، فقط أغمض عينيك واجلس وحدك في عزلة، تذكر العواطف التي شعرت بها، وكل الدوافع التي تأرجحت بينها، وكل الأفعال التي أتيتها، والكلمات التي قلتها، والنيات التي أخفيتها، حاول أن تصل إلى حقيقتك وتعرف واقعك، ستجد أن واقعك سيدهشك ويفاجئك، كأنه واقع رجل آخر لا تعرفه.

ستجد مدى عظم أناكَ وروحِكَ، فأنتَ تلك المعجزة التي جاءت في زمن استحالة المعجزات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد