مادة الفاء والكاف والراء تفيد أشياء جميعها تختص بالعمل الذهني والعقلي، ولا يمت أي منها إلى إعمال الجسم بشيء أو العمل العضلي بوجه أوضح.
فالفكر نتاج ذهني وليد العمل على الاهتمام بشيء معين، ودوام البحث في موضوع محدد يخلق فكراً مما قد يخرج قاعدة أو نظرية للدنيا.
فالتفكير شيء مستور عن العين والحس إلا حين ولادته عملاً؛ فإنه في ذاك الحين يخرج للعامة والخاصة.
وقد أصبح مَن يتولى البحث في الأمور التي تجد في المجتمع على الناس، والتي تكثر الآراء فيها حول القبول والرفض، يوصف بأنه "مفكر".
فمثلاً صار من يهتم بالإصلاح والتجديد وتنقية التراث مما شابه يسمى "مفكراً إسلامياً"، وكذلك من يعمل بمجال الفكر في مضمار السياسة ودروبها يسمى "مفكراً سياسياً".. وهكذا.
والفكر لا بد أن يتوافر له ضرب من البحث، وضرب من الحجج مع الأدلة والبراهين، فليس كل ما يخطر ببال المرء من توافه الأمور وسفاسفها يسمى فكراً.
والفكر يطلق على الصحيح وغيره من العمل الذهني؛ إذ لا يستأثر الصحيح دون غيره بشرف التسمية، فما ثبت خطؤه من النظريات والأقوال والمسائل لم يضرب بها عرض الحائط ولم تذهب هباء.
وعلى ذلك، لنا أن نطلق على نصائح ميكافيلي" في "الأمير" للرؤساء والحكام فكراً، وقد أجمع على فسادها وإفسادها كل من له ذرة من عقل، غير أن ما أتى به "ينكولو ماكيافيللي" من شواهد تاريخية وأحداث من واقعه المعاصر زج بفلسفته نحو القبول عند من ماتت إنسانيتهم وقلوبهم، فلا غرو أن راجت أفكاره بين عدد لا بأس به من الرؤساء ورعاياهم ممن لا يتكلفون لأخلاق أو إنسانية.
ويحسن بنا أن نقول إن الفكر يختلف بين نوعين متباينين:
الأول: هو ذلك التفكير العلمي بالمعنى الخاص الذي لا يمارسه إلا العلماء المتخصصون في مجالات تخصصاتهم المختلفة، والذي لا يفهمه إلا مَن له حظ في تلك العلوم أو المثقفون أو المهتمون بتلك الأمور؛ لأنها تقوم على لغة متخصصة لها اصطلاحات ورموز معروفة بين أهل العلم المقصود.
والآخر هو ذلك التفكير الذي نستخدمه في حياتنا اليومية، وكل ما يشترط في ذلك أن يكون التفكير منظماً، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي تنظمها وتتطبقها العقول بشكل جاد في لحظة دون أن نشعر بها شعوراً واعياً.
فعلى النوع الأخير، نقيس كل عملية تفكير تحدث في اليوم والليلة، مثل حاصل جمع اثنين واثنين، وهل الأب أكبر من الابن أم العكس؟ وهل يطير الإنسان في الهواء؟.. وهكذا.
وعلى النوع الأول، يمكن أن نقيس عليه تلك النظريات والاستنتاجات والعمليات الحسابية المعقدة ومسائل الفيزياء الصعبة ومعادلات الكيمياء الطويلة، فما أتت تلك العلوم إلا بنتاج الفكر والعمل على استنتاجها من المقدمات المختلفة، مثل قانون الجاذبية لنيوتن، والبحور العروضية للخليل.
ومن أعظم الفلاسفة الذين اهتموا بتحديد معنى الفكر الإنساني "ديكارت"، الذي يعني عنده جملة النشاط الذهني من تفكير وإرادة ووجدان وعاطفة، وهذا ما قصده بقوله: "أنا أفكر إذاً أنا موجود".
وذلك المذهب الديكارتي له معانٍ واسعة لا تحدد المراد، إلا أنه يشمل كل ما تنطوي عليه الذات من أمور لا مادية، وذلك مقابل كل ما هو مادي.
بيد أن هناك فئة أخرى من التعريفات تستخلص -على حسب أصحابها- معاني متعددة للفكر، وكلها معان مختلفة لوجهات متعددة في التعريفات كما جاء في "المعجم الفلسفي" لمجمع اللغة العربية بمصر، و"المعجم الفلسفي" للدكتور مراد وهبه وآخرين.
منها الفكر بالمعنى الخاص، يعني ما يتم التفكير به من أعمال ذهنية.
ومنها الفكر، أسمى صور العمل الذهني بما فيه من تحليل وتركيب وتنسيق.
ومنها الفكر، هو الانتقال من أمور حاضرة إلى أمور غير حاضرة في الذهن، وهذا الانتقال لا يخلو من ترتيب.
ويشير "الشريف الجرجاني" في "التعريفات" إلى أن الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول.
ويشير آخرون إلى أن الفكر بوجه عام يعني كل حركة في تصوراتنا ومفاهيمنا.
ويرى آخرون أن الفكرة قوة تبعث أفكاراً أخرى وتدفع إلى العمل.
الذي نحصله من أقوال العلماء والفلاسفة الذين تعرضوا لتحديد معنى الفكر، أن الفكر هو الإعمال لخلايا المخ مع إعطائها المقدمات والبناء عليها حتى تحصل في نهاية الأمر على النتيجة، ويمكن أن تكون تلك النتيجة المرغوبة مسألةً رياضية أو نظرية اقتصادية أو حكماً فقهياً أو توقيعاً قضائياً أو إجابة سؤال وجه لمسؤول أو مشكلة حياتية عارضة وما شابه ذلك من الأشياء الهامة التي تستحق أن نتفكر ونفكر فيها.
وأهمية الفكر ليست بصحته أو عدمه، فـ"كارل ماركس" مؤسس "الاشتراكية العلمية" ومؤلف "رأس المال"، قد تنبأ بأن الطبقة العاملة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية سوف تزداد فقراً.. وذلك لم يحدث، وتنبأ بأن الطبقة المتوسطة سوف تزول وتنهار في أحضان الطبقة العاملة إلى الأبد.. وذلك ما لم يحدث، وتنبأ بأن استخدام الآلات الحديثة يؤدي إلى إفلاس أصحاب رؤوس الأموال.. غير أن العكس ما حدث، ولكن نظرية الرجل حازت من تأييد حاشد ما جعل ثلثي سكان العالم في حين ما كانوا من أتباعها إذ إنها صارت مذهباً سياسياً قامت عليه دول وأحزاب وجماعات، وتعد شهرة الرجل بين عمالقة المفكرين دليلاً على عظمته، ولا سيما أن كتابه "رأس المال" بلغت شهرته الآفاق يعرفه الصغير والكبير والقصي والدني.
وكذلك أهمية المفكرين ليست بما وقعوا فيه من أخطاء، ولكن بما تركوا من أثر في نفوس الناس فنقلوهم من مجرد الخمول إلى ذروة العمل، حتى ولو كان عملاً مدمراً أو فاسداً في بعض الأحيان، كما كان من "هتلر" النازي و"موسوليني" الفاشي، وما أبليا به الدنيا من دمار وقتل للنفوس وطمس لمظاهر الحضارات في بلاد شتى.
والفكر نعمة مجانية -شأن الكثير من النعم- ليس عليها ضريبة أو رسوم نقدية في إعمال العقل، وإن كان لها من ضريبة؛ فإنما هي في تنفيذ ما أسفر عنه ذلك التفكير الذي أعمل فيه العقل، وفي مواجهة الدنيا بنتاجه إن كان شيئاً جديداً غير مألوف للعقول والأفئدة، وذلك كمثل الإمام "محمد عبده" الذي عودي بسبب فكره التنويري المستقيم، ومن قبله "جمال الدين الأفغاني" وغيرهما الكثير.
فلماذا يسرف الناس في استعمال نعمهم الأخرى ويهملون تلك النعمة المجانية؟
فلا عليك يا عقل.. إنها مجانية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.