إنسانية سينمائية بامتياز

جدتي لم تتابع الأفلام، لا تعرف الرجل العنكبوت ولا يهمها الرجل الوطواط، ولا قيامة أرطغرل، احتفظت بإنسانيتها بقارورة زجاجية، تلك الإنسانية التي لا تحتاج علماً ولا تطوراً ولا دوراً للسينما لتشرح لنا معنى أن تكون إنساناً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/17 الساعة 03:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/17 الساعة 03:15 بتوقيت غرينتش

بلادة الكوكب تستفز المجرة، والصمت يستفز السكوت، هل تمنيت يوماً أن تكون أخرس؟ لا أعتقد، فكلنا نحب الصوت ونحب الكلام والتعبير ونفتقد جزءاً كبيراً من دورنا كبشر في التعامل، إن لم تكن لدينا القدرة الكاملة على الكلام، وإيصال المعلومة بوضوح تام، كما في عقولنا.

ما حاجتنا للغات والعلم، للصوت والصدى الفيزيائي، للعلوم الكونية بأكملها إن لم نكن قادرين على الحديث وإبداء الرأي المُخالف أو المُعارض، الرأي هو أن تكون، أن تُثبت أنك موجود، أنك كائن حقيقي يُشاركنا الكوكب ويرى ما نرى.

قد تكون العلوم والتطورات التي آلت إليها مختلف المباحث لعنة من لعنات الرب علينا، وسقطت مُتمركزة في أدمغتنا، صنعنا الأفلام، تحدثنا بها عن تاريخنا المُشرف المجيد، صورنا قوة لعضلات البعض الذين يستنشقون حديداً في منامهم فانتفخوا في الصباح الباكر ليُفجروا كل من حولهم من الأشرار أو رُبما الأخيار، فلن يهمنا إن كان المُنتفخ هو البطل!

وفي روايات أخرى كان الرجل العنكبوت يقفز بين السماوات متمسكاً بخيوط عنكبوتية ليُلبي نداء المحتاج والمُستضعف في الأرض الرابعة!

مشاهد القتل والسلخ والاختناق صارت سهلة للنظر، بل يُمكننا أحياناً أن نُسعد لأن البطل قطع رأس العدو ومشى به بين الشوارع وشرايينه تُجر خلفه تسبح في دماء تُعانق التُراب، مناعة اكتسبناها ضد الوحشية.

كُنت أعجَب من جدتي التي كانت تبكي قهراً على شجرة زيتون لم تُثمر، وتبكي على دجاجة اعتدى عليها وقتلها قط الجار، على حبة طماطم وحيدة من بين الأكوام أصابها العفن، على ابن عمتي المُصاب بمتلازمة ويسخر منه أبناء الحي، على ثوبها الذي لم تجد له خيطاً مُطابقاً للون زخرفته الفلاحة!

تبكي وكأن الحُزن والبُكاء أسهل من أسهل شيء، قد يضرب بجدار قلبها الدامع،
جدتي لم تتابع الأفلام، لا تعرف الرجل العنكبوت ولا يهمها الرجل الوطواط، ولا قيامة أرطغرل، احتفظت بإنسانيتها بقارورة زجاجية، تلك الإنسانية التي لا تحتاج علماً ولا تطوراً ولا دوراً للسينما لتشرح لنا معنى أن تكون إنساناً.

أصبحنا نتناقل أخبار المجازر الحقيقية والسلخ والقتل وقطع الرؤوس بمُنتهى اليُسر والبساطة والقُبح!

صورة بظهر صورة ومقاطع لا تُعد ولا تُحصى لأطفال وشيوخ يموتون أمام اللحظة، نرى الموت فعلياً فلا نكتفي برؤية الجُثث وإحصائها، بل تطورنا للمرحلة التي نشهد فيها تصوير موت الطفل اختناقاً، ونُشارك هذا المقطع السينمائي على صفحاتنا الافتراضية، وبعد خمس دقائق نعلن عن حفل توقيع كتاب للكاتب الفُلاني، وبعد عشر دقائق نُتابع فيما لو كُنا أخذنا القرار بخصوص إسرائيل إن كانت دولة جارة أم عدواً، وبعد عدة تعليقات من هُنا وهناك نصل للمرحلة المملة من نقاش الانتماءات والفصائل والطوائف، والمقطع السينمائي؟ لم يجنِ مُتابعات كافية ولا إعجابات تُذكر فلا نقوم بذكر أي سينمائيات أخرى!

عصر التطور، والتكنولوجيا السريعة هو العصر الذي يجب أن يُكتب في تاريخه بأنه قتل الإنسانية وشوه معنى التآخي، وألغى الحُزن من قلوبنا، واكتفى بنزع أصواتنا، شئنا أم أبينا نحن بلا استثناء شياطين بليدة خُرسان، وللأمانة الختامية: "والله" إن المقاطع ليست أفلاماً.

جدتي رمت قارورتها في المُحيط ورحلت، على من يجدها أن يفتحها ويسكبها في المُحيط لتُصاب الأرض بالعدوى، علّ وباء الإنسانية يُنقذنا يوماً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد