تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مئات الحسابات التي تدعو إلى الإلحاد، جزء كبير منها مدفوع من جهات عديدة، أكثرها غير مسلم، ضمن خطة منهجية طويلة لإغواء الشباب المسلم، والتي تظل دوماً تضرب في صميم الدين عبر إيراد القصص الملفقة والروايات المتضاربة، والبحث عن الأحداث الغريبة، بل والمختلف فيها، لاحظ دوماً أن النقد والهجوم غرضهما نسف وَهْم الدين -من وجهة نظرهم- وتدعيم الإلحاد، والهدف دوماً الإسلام من بين كافة الأديان.
النقاش في غالبه مع مثل هذه الحسابات يكشف عن مستوى ثقافي متهافت في غالبه.
لكن لماذا هذا التنامي لمثل هذا التوجه في السنوات القليلة الماضية؟
كان للإنترنت ووسائل التواصل الدور الأكبر والفاعل في تكريس مثل هذا التوجه لدى الكثيرين، بالإضافة إلى إيجاد التواصل بينهم؛ ليتخلق خط افتراضي أصبحوا يلتفون حوله، مثلها مثل الحسابات الإباحية أو الشاذة أو الداعية للعنف الموجودة بكثرة، والتي لا يمكن تجاهلها.
محاولة قراءة هذا التوجه حسب المتاح تبين أننا أمام فئات سِنية عديدة، وتوجهات متشابكة تدفعها تصورات وجهات عديدة، من أبرزها وضوحاً الفئات المراهقة، وخاصة الفتيات، تعرف سن المراهقة بأنها فترة التمرد على الأعراف والتقاليد والتعلق بالتقليعات، الانطواء والصلف ومعارضة توجهات العائلة عادة، والمخالفة تزداد خاصة مع العائلات التي لا توفر الدفء العاطفي، ولا تتمتع بعلاقات تواصلية فيما بينها، يتضح ذلك بسهولة من خلال كتاباتهم التي تتميز بالتسطيح الواضح، في مثل هذه الحالة يغلب عليها الحالة الوقتية؛ ليعودوا إلى مجتمعهم من جديد.
هناك المبتعثون وأبناء الطبقة البرجوازية وهؤلاء يشهد بعضهم حالة انفصال جزئي أو كامل عن المجتمع لفترات طويلة، ويترددون على مجتمعات متعلمنة، والتي تُنحّي الدين جانباً، فينمو لدى هؤلاء حالة من التبلد تجاه الدين أولاً مع تنامي حالة إعجاب واعتياد لنمط الحياة الغربية، مع اعتقاد أن الدين شيء هامشي يمكن تجاوزه أو تنحيته جانباً.
نفس ما ينطبق على المراهقين في غياب الرؤية الواعية عن المشهد والتمسك بالقشور، منهم مَن يعود ومنهم مَن يظن أنه قد أصاب روح التحرر، الملاحظ لكتاباتهم (ومنهم جزء أصحاب حظ من الثقافة)،تلاحظ غرابة في أسلوب كتاباتهم التي تفارق ما نألفه، أسلوب يشبه دبلجة الأفلام الغربية، تقدر تقول عربية – أميركية!
الاعتماد على الكليشيهات المقتبسة من روح القيم الغربية، السعي دائماً للتأكيد على مصطلحات (إنسان، إنسانية، تعايش، موسيقى)، والموسيقى هنا دائما لا تتجاوز أيضاً الآلات الغربية ذات الصورة المميزة كالقيثارة والبيانو والكمان والأكورديون، أي أن الناي والعود والربابة خارج الإلحاد!
هناك أيضاً فئة عمرية أكبر من المراهقة بكثير تستطيع تحديدها كمتوسط بالثلاثينيات، وهذه تتنوع أسبابها، فهناك فئة تعرضت إلى ظلم اجتماعي كالطلاق واليتم والعنوسة والخيانة وغيرها، وهذه تنقم على المجتمع كله، فترى روح المفارقة لمثل هذا المجتمع الظالم (المتخلف والمتشرذم)، وأخرى تعاني من حالة فقدان توازن وتنامٍ للأنا، تحتقر المجتمع وترى أنها أعلى منه، وأن مكانها ليس في مجتمع كهذا، هذه في غالبها تعرضت إلى قرارات ومشاهدات سطحية تفتقد إلى التأسيس، فكان من الطبيعي الوصول إلى حالة كهذه.
وسائل الإعلام العربية الفاشلة كانت وما زالت في غاليتها تفتقد إلى صناعة المحتوى وأهدافه ومبادئه، واكتفت بنقل المحتوى الغربي، وتنافست فيه تحقيقاً للانتشار والمال وجذب الإعلانات، وأخرى تسعى إلى تكريس الثقافة الغربية وإشاعتها والقبول بها كأسلوب حياة بشقها الاستهلاكي ورؤيتها المادية في نفس الوقت الذي حجَّمت فيه الدول العربية المؤسسات الدينية من القيام بأدوارها الطبيعية لأهداف سياسية، والتي هي نفسها شهدت إحلالاً لحالة قاسية من الانقسام المجتمعي بسبب الاحتراب السياسي في المنطقة، وداخل الدول التي تشهد تخبطاً في منهجيتها وأولوياتها خوفاً من الإسلاميين من جهة وإرضاء للغربيين وأدعيائهم داخل المجتمعات العربية، الذين بدورهم يتمتعون بصلات وثيقة مع الغرب.
من أبرز أهدافهم تحجيم الدين ورجالاته جانباً تحقيقاً لمزيد من المكاسب والنقاط في حرب مكايدة لا تكاد تنتهي، في نفس الوقت شهدت المرحلة سقوطاً مريعاً للكثير من الدعاة وعلماء الدين، ففي وسط غمار الفوران السياسي الذي شهدته المنطقة تعرضت فيه المبادئ لحالة هستيرية من التقليب والتزييف، وهي موسومة بحالة الانكشاف التاريخي؛ حيث سقطت الغالبية من الدعاة والعلماء في فخ المقاربات وترتيق عورة الأنظمة المجرمة في وجه الشعوب المسحولة، فغدوا أضحوكة مع مجتمع يشهد وعياً متنامياً.
وسائل الإعلام العربية كانت لها أدوار سلبية لا يمكن تجاوزها وسط غياب الرسالة الحقيقية للإعلام، فأغرقت المجتمعات بحروب المصطلحات وخلقت بالقوة أطيافاً افتراضية في مجتمعنا ذات رؤى وأفكار وتوجهات مصادمة لتوجهات وطبيعة المجتمع، فنمت الأفكار الدخيلة والمتهافتة التي ظل الإعلام يدفعها دفعاً لتبقى في الساحة، وتظل تستقطب كلَّ مَن يستطيع الوقوف في وجه الإسلام بحجة الفكر والتطور والتنوير.
الموضوع كبير ومتشعب، وقد يغدو كل ما سبق قراءة تغيب عنها روح البحث الموضوعي، وفي نفس الوقت قد تغدو تحليلات واهية لمجرد فاسق أراد أن يكون هناك دافع نفسي لما يمارسه بعيداً عن وخز الضمير، ففضَّل مظلة الإلحاد على منهج الدين الضابط.
الدول والمنظمات العربية لا تنظر للأمر بجدية، ما دام لا يمس الأمن والسيادة، بل ترى أنه من الجيد أن ينصرف الشباب إلى السلمية تحت أي غطاء ما دام أنه يبتعد عن التوجهات الراديكالية والتحركات السياسية، إلا أن ما ينمو ببطء سيتسبب للجميع بالأذى في المستقبل، فليس أسوأ على الكون من مجابهة المسوخ التي لا تؤمن بشيء.
إن ما تمر به الأمة على كافة المستويات هو تدهور حقيقي، والإلحاد حتى ولو كان افتراضياً فهو أحد العوارض المرضية الطبيعية التي تصيب أمة تتداعى، لغتها الكذب والدجل، يعتلي مشهدها الثقافي والإعلامي الكذابون والمدلسون.
يعتقد الكثيرون أن الإلحاد في شكل خطابه الحالي هو معاداة (للإسلام) كدين ودعوة للانغماس في ملهيات الحياة، وهذا أمر يستحسنه الكثير، لكن الحقيقة أنها حالة كفر بالمجتمع كله تبدأ بطرف ثم تنقض على كل ما تجدها في طريقها، تجد في كتاباتهم دائماً أسئلة حول الهدف، والجدوى من الحياة برمتها، سقوط حقيقي في العدمية!
إن محاربة الإسلام ومناكفته لن تجدي، والاعتقاد بإمكانية تجاوزه مجرد أحلام واهية انكسر عندها العظماء والجبابرة والدهاة، ظل الإسلام وسيبقى، وهذا ليس شعاراً يتم ترديده، فقد عرفت المجتمعات الإسلامية فترات من التردي وانتشاراً للزندقة، كان الخاسر فيها المجتمعات التي تتخلى عن هويتها لتشهد انكسارات لا يمكن إصلاحها بسهولة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.