استهلاك الجيل وضرورة التوعية الجمعية

وبشكل ملحوظ ساهمت هذه العملية في بلورة منعطفات زركشية باهتة لتجريد بعض الصور الحياتية من خلالها، والتي تعد رموزاً راسخة وفرغتها على أسس ومنطلقات استقطابية من وقارها ومعانيها الجذابة

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/07 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/07 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش

كثيرة هي العوامل التي تجتر الأجيال المعاصرة في المجتمعات العربية من الحروب التي دارت وما زالت إلى الفقر والإهمال والتهميش من جهة، إلى عامل الترف في الطرف الآخر الذي قد يلعب نفس الدور في التنميط الثقافي.

تلك المعطيات أفرزت جيلاً اتكالياً من ناحية لجهله بكيفية ما هو كائن، وآخر استهلاكياً ترفيهياً من ناحية استهوانه لما بين يديه، وقد لعب العامل الترفيهي لكلا الطرفين متنفساً صناعياً بين التفريغ والشحن باختلاف الوسائل والتواصل، وكان له قدرة فتاكة على السيطرة والاستحواذ والتشويش الفكري وقلب مفهوم الجيل من مُنتِج ثقافي إلى مستهلك إسفافي.

يتبادر إلى ذهننا يومياً آلاف الصور التي تمنحنا القدرة على مواصلة الحياة وتغرقنا بالحب والأمل، ذلك أن الصورة منحة إلهية جميلة تحفر أخدوداً عميقاً في الذاكرة، حينما نستعيدها بألق ما كان المشهد الذي نحبه عليه، وكم من صور جميلة نفتقدها مع تكرار الحوافز الدعائية وتراكم الأحداث المحلية التي شوَّهت الذاكرة الإنسانية وجعلت منها مكباً للنفايات الإعلانية لدرجة أن المرء بات يشغله الحيز المكاني والزماني أكثر من أي موروث تكويني لشخصيته.. وقلما يسري إليه خاطر يفتح عليه طيف الذكريات العميقة مع هذا التزاحم اليومي للأحداث المتكررة. ما بدا أظهر أن المرء لا يمتلك القدرة على تصويب ما يريد فعله على الرغم من استبساله في صناعة ذاته المشتتة بين الحاضر القاسي كقوالب الكونكريت والماضي المجيد الذي يستلهم منه جذوة وجوده.

لقد أصيبت الأجيال الحالية بشلل فكري تبرز خباياه في انجرافها إلى الشبكات الاجتماعية التي ليس لها رؤية عميقة في فرز الواقع بين ما يجب أن يكون وبين ما هو كائن وتدور في دوامة فراغية غير هادفة -وهذا لا ينطبق على جميعها- وهي أشبه ما تكون برمال ناعمة تلتهم فرائسها في وضح النهار.. تغوص في التفاصيل الظاهرية وتبتعد عن الجوهرية بهدف تسطيح الثقافة وبسط سيطرتها على روادها ضمن برامج تعزز التبعية وتقوي ثلاثية الإسفاف والتسخف والنمطية.

وبشكل ملحوظ ساهمت هذه العملية في بلورة منعطفات زركشية باهتة لتجريد بعض الصور الحياتية من خلالها، والتي تعد رموزاً راسخة وفرغتها على أسس ومنطلقات استقطابية من وقارها ومعانيها الجذابة، ولا يخلو الأمر من أن إعادة تدوير المعلومة بشكل استهلاكي وبعناوين مختلفة لدرجة إرهاق المتصفح وتشتيت تركيزه عن المواضيع المهمة التي قد يبحث عنها، تضعه بشكل عفوي على جادة الاسترسال في التصفح العبثي، وتسهل له قراءة المواضيع الهابطة التي لا تتطلب ذاك الجهد الذهني والقوة المعرفية.

هذه الآلية مدروسة جيداً لصناعة شريحة واسعة من محدودي المعرفة، يسهل ابتلاعهم في قضمة واحدة وإغراقهم في قطرة واحدة، واستهلاكهم وإعادة تدويرهم ثقافياً.

إن الدول التي نعتبرها متقدمة سبقتنا بالقراءة التي أسدلنا عليها ستار جهلنا بالكذب على أنفسنا ومحاربة تخلفنا بالزعامات الورقية والبطولات الوهمية، حين جاء الإسلام كانت قريش تحاجج المجتمعات في العمق المعرفي والمعلقات على جدران الكعبة دساتير ثقافية لمجتمع كان يتبارى في قراءة ذاته، وعكاظ لم تكن سوق أمتعة وعطور وأطياب بل لعرض السلع الثقافية التي عشقها "متنبي ألمانيا"، "الشاعر غوته"، وأثنى على هذا المجتمع الذي جمع بين سمو "الكلمة" التي ينطق بها اللسان، وتلك التي تحملها الروح.

إن إعادة الصور الحقيقية التي ترسم خارطة الطريق للأجيال تقع على عاتق النخب المثقفة، والتي يجب ألا ينحصر دورها في صناعة الثقافة فقط؛ بل في كيفية توجيهها للاستفادة الجمّة من مناهلها وتصوير محاسنها وموجبات تناولها وكيفية التعاطي معها وضرورات انعكاسها على الحياة الفردية والمجتمعية.. إن المفاهيم التي على أساسها يبنى الفكر الإنساني يمكن حصرها في جملة الوعي الثقافي والحضاري لكل مجتمع، ولا يمكن فصل الأجيال المتتابعة عن الثقافة الجمعية، فكلها تشكل بوتقة حضارية ممتدة الجذور والفروع.. وإن انقطع أحد الأجيال -كما هو حاصل الآن- عن حبل الموروث فيمكن إرجاعه لعوامل عديدة، منها الفشل الثقافي والاجتماعي والسياسي؛ ذلك أن الجيل غير المرتبط بثقافته وبعده الاجتماعي،

جيل استحل لنفسه الغوغائية ورضي بها طريقاً حياتياً جديداً..فمَن المسؤول عن هذا التردي؟ تكمن أسباب عديدة وراء ذلك، منها المفاعلات الدينية التي ساهمت إلى حد بعيد في الانفصام بين الحقيقة والوهم والمستحيل والممكن، وصورت مفاهيم المحرمات بصور استعباطية إلى درجة التندر، فكل شيء محرم وممنوع ومستضاق ما سهل الطريق لنفور جيل الشباب من اللاءات الدائمة والعزوف عن الضوابط واستهضامه لعالم "السايبر" الذي يستهلكه كثقب أسود عالي الجاذبية.

ختاماً.. نحن بحاجة إلى وقفة توعوية مستدامة عمودها الفقري العودة إلى "القراءة"، واعتبار هذه القراءة وسيلة وليست غاية، ولنا في أوروبا خير مثال، فالنشء الجديد ومع كثافة الوسائط التقنية تراه متمسكاً بكتابه في القطارات والحافلات والبيوت والمكتبات، ولا فرق بين صغيرهم وكبيرهم في ذلك.. فالكل في القراءة سواء، أوَليس من الأَولى لهم أن يهجروا الكتاب وهم من اخترع هذه الوسائط والشبكات؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد