تجربتي مع الموت في حوادث الطائرات

في الجهة المقابلة، فإن تجنب الطيران لم يكن خياراً متاحاً، بيأس حاولت طريقة التعرض الزائد، قمت باستعارة حساب زوجي وقضيت ساعات طويلة أتصفح أرشيفات المجلات الطبية باحثة عن تقارير التشريح لحوادث الطائرات.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/02 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/02 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش

صديقي طالب الطب رفع نظره عن الملاحظات المعروضة أمامه، وضغط على أسنانه كاشفاً عن العلكة التي يلوكها في فمه، أطلقت صوتاً متذمراً محاولة إسكاته والتركيز على واجب علم النفس التطوري الذي كنت أعمل عليه.
سألته: ماذا؟

كان قد حضر محاضرة في علم الطب الشرعي باكراً ذلك اليوم، وقضى معظم الأمسية يزعجني بالتفاصيل المخيفة.

"هل تتذكرين حادث اصطدام البالون في أليس سبرينجز التي حدثت في عام 1989؟".. لم أستطِع التذكر لكني أشرت برأسي موافقة على أي حال في محاولة يائسة لإيقافه.
اصطدم بالونان، سقطا عمودياً مسافة 2000 قدم نحو الأرض، مات في الحادث ثلاثون شخصاً فيما اعتبر أكبر حادث اصطدام بالون مميت في وقتها.

"حاول بعضهم القفز في آخر لحظة"، وأضاف قائلاً: "لم يسعفهم ذلك، امتصت أجسادهم الصدمة عبر أقدامهم، عظام أقدامهم تحطمت حتى إن عظام الفخذين لبعض الضحايا اخترقت أجسادهم وصولا إلى الإبطين".

أجبته: "كم هذا فظيع". قلت ذلك وأنا أحاول تجنب الصورة الذهنية، صديقي كان يحاول إقناعي بالذهاب إلى رحلة بالون طائر في وادي يارا منذ شهور والآن يخبرني عن هذه القصة؟

بعدها بسنوات قليلة، صديقي طالب الطب تحول إلى زوجي الطبيب، وتمكن من إقناعي بالذهاب في رحلة للتحليق الشراعي فوق الماء في أيام الآحاد، كنت جالسة إلى جواره في مظلة تسع شخصين، بالنظر إلى أسفل كان بإمكاننا أن نرى حبلاً طويلاً متصلاً بقارب سريع يبدو بحجم لعبة أطفال من منظورنا.

بدأ زوجي في تحريك قدميه إلى الأمام والخلف، مما أدى إلى تأرجح المظلة، أخبرته صارخة: "توقف لقد هرب الدم من مفاصلي"، ابتسم لي ونظر إلى المشبك الذي يربط المقعد بالمظلة، ومد يديه متظاهراً بأنه يفكه.

كان يمزح بالتأكيد (هذا إذا اعتبرنا التظاهر بمحاولة قتل أحدهم مزحة)، لكن تلك اللحظة التي انتابتني من الخوف النقي حين تخيلت أننا نسقط سقوطاً حراً لمسافة 500 قدم نحو مصيرنا المحتوم كانت اللحظة في سلسلة من الحوادث أقنعتني أن الإنسان لم يخلق ليطير.

أن تكون عالقاً في حمام طائرة لمدة عشر دقائق أثناء مرورها بمطبات هوائية فوق المحيط الهادئ، هبوط صعب في ماناوس بالبرازيل جعلني أعض لساني لدرجة أنه بدأ بالنزيف، تحمل وضع الانتظار فوق مطار هيثرو لمدة طويلة لدرجة أني كنت متأكدة أن الطائرة سينفد منها الوقود.

على خلاف خوفي الغبي وغير المسمى من أن تعلق الأجزاء الليفية من الطائرة بين أسناني الأفيو فوبيا، وهو الخوف العام من الطيران أمر شائع ويتشاركه واحد من كل خمسة، وهذا الخوف يرجع بتاريخه إلى ما قبل كارثة هايدن بيرج وعبور جان بيير فرانسيوس القنال الإنكليزي ببالون في عام 1785.

وفقاً لرئيس الكلية الملكية الأسترالية والنيوزيلندية للأطباء النفسيين البروفيسور مالكوم هوبوود، فإن الخوف من الطيران اضطراب شائع، أخبرني قائلاً: "نحن نريد من عالمنا أن يصبح آمناً. الشخص المصاب بالخوف من الطيران معرض للتفكير أن احتمالات حدوث حادثة أكبر مما هو فعلياً، وعندما ترد الأخبار حول تحطم الطائرات تجدهم مركزين عليها بالذات. كان هذا الأمر صحيحاً بالنسبة لي بالتحديد.
في الأحد عشر أسبوعاً الأول من عام 2017 حدث 13 حادثة تحطم طائرة مميتة حول العالم، مما أدى إلى وفاة 59 شخصاً وفقاً لمنظمة جمع المعلومات السويسرية مكتب أرشيف حوادث الطائرات، لكن عدد حوادث الطيران القاتلة قل بشكل ملحوظ خلال العشرين عاماً الماضية.

في المقابل، هناك مليون شخص يموتون من الملاريا كل عام. 1.2 مليون شخص يموتون غرقاً و1.3 مليون شخص يموتون بحوادث المركبات ذات المحركات، هذه الندرة النسبية لحوادث الطائرات لم تفعل سوى القليل للتقليل من تعرق كفي وتشنج أمعائي، كلما كان عليّ أن أركب طائرة، وكلما قرأت الأخبار تنتقل عيني تلقائياً إلى قصص حوادث الطائرات.

مرة أخرى عرفت أني لم أكن وحدي، فخالة زوجي على سبيل المثال لديها طريقة بسيطة للتغلب على خوفها الحاد من الطيران، وهو أنها لم تركب طائرة قط في حياتها.

في الجهة المقابلة، فإن تجنب الطيران لم يكن خياراً متاحاً، بيأس حاولت طريقة التعرض الزائد، قمت باستعارة حساب زوجي وقضيت ساعات طويلة أتصفح أرشيفات المجلات الطبية باحثة عن تقارير التشريح لحوادث الطائرات.

رغم المرونة الكبيرة التي تبدو على الجسم البشري، فإنه ليس مصمماً لمقاومة قوى التباطؤ التي تبلغ بين 50 و200 G في الحقيقة فإن شدة الإصابات التي تحدث في حادث تصادم في السرعات السريعة تجعل مهمة فهرسة هذه الإصابات أمراً صعباً، وفقاً لمجلة علوم الطب الشرعي التي ناقشت نظام تصنيف إصابات جديداً لضحايا كارثة طائرة إير فرانس AF447 في 2009 والتي قتلت 228 راكباً كانوا على متنها.

هذه الإصابات تضم (التفكك وتمزق أعضاء الجسد وتمزق وانفصال الجلد نتيجة التمدد الزائد)، مشاكل أخرى تظهر بسبب فقدان عدد كبير من أعضاء الجسد، بينما تعد عوامل مثل حجم الطائرة وسرعتها عند الاصطدام وما إذا كانت تحطمت فوق اليابسة أو في البحر ووضعية الشخص في الطائرة بإمكانها أن تحدد ماذا يبقى من الجسم، هناك أيضاً عدد من العناصر المرعبة الأخرى لأخذها في الاعتبار.

كين دورن شتاين، شقيق أحد الركاب الذين قتلوا في حادثة تفجير الطائرة فوق لوكربي بأسكوتلندا قضى ما يقرب من 30 عاماً يحاول حل قضية من بالتحديد المسؤول عن الحادثة، كجزء من تحقيقه أعاد إنشاء مسرح الحادث على خريطة كبيرة مستخدماً دبابيس لتعليم أماكن سقوط أجساد الضحايا.

ركاب الدرجة الأولى معظمهم سقطوا في حيز واحد وركاب الدرجة الاقتصادية في حيز آخر، لكن بعيداً عن البقية يكمن حيز صغير، "كانوا الأصغر سناً والأطفال الصغار"، كما قال دورن شتاين في مقابلة مع مجلة النيويوركر، مضيفاً "إذا تأملت في فيزياء الأمر ستجد أنهم تم حملهم من قبل الرياح".

يبدو أن هناك إجماعاً على أن هناك معاناة قليلة لدى ضحايا حوادث الطائرات، الجانب السلبي في الموضوع إن كان هناك جانب سلبي أن الموت في حوادث الاصطدام المرتفعة أو حين تتحطم الطائرة في الجو أنه غالباً ما يكون سريعاً.
في ورقة تناقش كارثة الخطوط الجوية الفرنسية خلصت إلى أن "الموت كان سريعاً والألم الجسدي الذي تسببت به الرضوض تم الإحساس به على الأرجح، لكن لمدة قصيرة، مدة الوعي المفيد كانت قصيرة جداً".

في ورقته "الاختبار التشريحي على ضحايا الحوادث الجوية" تيري يعرض قائمة بأسباب وفاة 28 شخصاً ماتوا حين تحطمت طائرة الخطوط الجوية البريطانية الأوروبية المتجهة من باريس إلى لندن أثناء هبوطها، بينما يغطي الضباب الكثيف مطار هيثرو، تضم القائمة: جمجمة محطمة وكسر العمود الفقري العنقي وتمزق الشريان الأورطي وتمزق الكبد والقلب.

كل الضحايا، كما يشير تيري، "تعرضوا لإصابات تؤدي فوراً إلى فقدان الوعي أو الموت".

المتخصص بالطب الشرعي والأستاذ السريري بجامعة سيدني جوهان دوفلو يحمل مؤهل دراسات عليا في طب الطيران، أخبرني أن اهتمامه بحوادث الطائرات نبع من خوفه الخاص من الطيران.

"بأمانة لم أصل حتى الآن إلى السبب الحقيقي الذي يجعلني لا أحب الطيران" هكذا يقول دفلو، الذي عمل على عدد من حوادث الطائرات الصغيرة، من بينها حادثة خطوط مونارخ الجوية في مطار يانغ في نيو ساوث ويلز بأستراليا في 1993، والذي أدى إلى وفاة سبعة ركاب، ويضيف دوفلو قائلاً: "أظنها مسألة عدم قدرتي على التحكم في مصيري إلى جانب نقص في الإعجاب سلامة الطائرات".

قال دوفلو إنه كان من المهم إدراك أن العديد من حوادث الطائرات لا تكون قاتلة. "الإحصاءات الدولية تقترح بشكل عام أنه إذا حدث الاصطدام أثناء الإقلاع أو الهبوط فإن فرص نجاتك تكون أكثر من 50%"، وأضاف: "وإذا نظرت إلى الأمان النسبي للقيادة أو ركوب الدراجات أو الدراجات النارية والقطارات والطائرات لكل كيلومتر بلا شك تكون الطائرات أأمن هذه الوسائل".

يريد الأستاذ هوبوود طمأنة الذين يعانون من رهاب الطيران أن هناك خطوات يمكنها إن اتخذت بالترتيب أن تقلل من هذا الرهاب. العلاج يتضمن التعرف على القلة النسبية لخطر الطيران والتعرض التدريجي للتجربة مثل المرور بجانب المطار وقضاء وقت في المطار دون ركوب أي طائرة فعلياً.

"كلما اكتسبت ثقة في أحد هذه المستويات، فإن إمكانية أن تركب طائرة بالفعل تكون معقولة"، ويضيف: "في اللحظة التي تكون فيها بداخل الطائرة بالفعل والسفر بشكل متكرر ستساعدك على التحسن ولا تخف من الحديث مع طاقم الطائرة فغالباً ما يكونون مفيدين جداً في توفير المعلومات حول كيفية التعامل مع الخوف بشكل أفضل".

قبل عدة أيام كنت على متن طائرة إلى ميلبورن أجلس بين ابنتي وزوجي، برغم كل حالات التكيف المعرفي والتأمل قبل الرحلة رأيت السيناريو المعتاد في عقلي. طائرة تمخر عباب السماء في صمت، كتلة مفاجئة من النار تهبط يتبعها خيط من الدخان وانفجار على الأرض، فتحت عيني وتناولت مجلتي في محاولة لإبعاد الصورة.

بينما كنت أقلب الصفحات اللامعة رأيت ابنتي تضغط بأنفها على النافذة، في عمر الثالثة والنصف ووجود جديها خارج الولاية ومؤتمرات زوجي العالمية كانت بالفعل عضوة ذهبية في كانتاس، ملت عليها ولمست شعرها الأشقر الطويل بشفتي وشعرت بخصيلاتها النظيفة الناعمة وجلدها الدافئ، التفتت إليّ قائلة: "أنا أحب الطيران".

قلت لها: "وأنا أيضاً"، بينما أرد لها الابتسامة وفي تلك اللحظة كنت أقول الحقيقة.
ألقيت ببصري فوق رأسها على جمال السماء التي تمتد إلى ما لا نهاية، الحافة المائلة للجناح تقتطع الهواء مثل شراع، وعصابة من السحاب الأبيض غطت الأرض.

– هذا الموضوع مترجم عن النسخة الأسترالية من "هافينغتون بوست"؛ للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد