تمر علينا مر اللئام كثير من المصطلحات، بعضها يُفرض علينا احترامه قهراً، والبعض الآخر من المسكوت عنه دهراً، ومن هذه المصطلحات مصطلح العالَمانية.
لكن عالمانينتا ليست كغيرها فهي واقع معايش شئنا أم أبينا، ونظام مفروض قاومنا أم امتثلنا، بل أصبح في دنيانا دين يعتز به ويؤصل له.
فعلى مر التاريخ طرحت العالَمانية نفسها علينا بغزو عسكري وفكري، وفي ظل حالة من الانكسار الذي نعاني منه، نطرح السؤال: هل نحن حقاً في حاجة إلى العَلمانية؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال الذي ألحَّ على خاطري سنوات وسنوات، يجب أولاً ضبط المصطلح قبل الخوض فيه حتى نحدد مدى ما عُمّي علينا.
"فالعِلْمانية" المصطلح عليها ترجمة غير صحيحة لكلمة (Secularism) في الإنكليزية، زيد فيها ألف ونون في الاسم المنسوب على غير القياس؛ لأن الكلمة بكسر العين توهِم أن لهذا المذهب علاقة بالعلم، مع أنه لا صلة له بالعلم من قريب ولا من بعيد؛ لأن العلم هو (Science) النسبة إليه: عِلمي (Scientific).
إذا (عالَمانية) نسبة إلى هذا العالَم الدنيوي (مع تجاهل أو إنكار العالم الأخروي بفصل الدين عن الحياة)، حتى نفوت على المدلسين والمغرضين محاولتهم تجميل هذا المذهب والترويج له بين المسلمين بإيهام أنه (عِلْمي)، "الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه" للدكتور القرضاوي ص (48 – 50)، و"العلمانية" للدكتور سفر الحوالي ص (21 – 24).
والترجمة الصحيحة لهذه الكلمة هي (الدنيوية) أو (اللادينية) لا بمعنى ما يقابل (الأخروية) فحسب، بل بمعنى أخص، وهو: ما لا صلة له بالدين (Non- Religious)، أو: ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد (Anti- Religious).
ومن حيث النشأة: العالمانية جاءت نتيجة للصراع الكنسي مع العلماء التجريبيين؛ لأنهم كانوا كلما اكتشفوا شيئاً جديداً، وقفت لهم الكنيسة بالمرصاد، وطاردت العلماء بالأحكام الكنسية، فحرقت بعضهم وتسلطت عليهم بعقيدتها غير المقبولة عقلاً في الصلب والفداء والغفران ومحاكم التفتيش الدموية.
وتطورت العالمانية بتطور الزمان فمرت بأدوار متتابعة نلخصها فيما يلي:
الدور الأول: وقد كان دور الصراع الدموي مع الكنيسة، وسمِّي هذا الدور بعصر التنوير، أو بداية عصر النهضة الأوروبية، ويعود سببه إلى تأثر الأوروبيين بالمسلمين إثر اختلاطهم بهم عن طريق طلب العلم في الجامعات الإسلامية.
الدور الثاني: ظهور العالمانية الهادئة، وتغلُّب رجالها على المخالفين من رجال الكنيسة، وفيه تَمَّ عزل الدين عن الدولة، وانحصرت مفاهيمهم الكنسية في الطقوس الدينية فقط.
الدور الثالث: وفيه اكتملت قوة العالمانية ورجالها، وحلَّ الإلحاد المادي محل الدين تماماً.
ثم برزت الرأسمالية من الروافد المقوية للإلحاد العالماني، فاكتمل تطويق الدين ورجاله، واعتبر الدين عدواً للحضارة.
أما نحن أصحاب الديانة والهوية الإسلامية، فمن الظلم أن نواجه هذا الصرح العظيم المتكامل من الشرعية والحضارة الإسلامية، بتهافت فلسفات ونظريات العالمانية.
فلم يعرف تاريخنا القديم ولا المعاصر على الإطلاق صراعاً بين العلم وبين الدين؛ لأن هذا الدين المنزل من قبل حكيم عليم، مدبر خالق لكل الحقائق العلمية.
ولهذا فقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية (درء تعارض العقل والنقل) على أنه: لا يتعارض نص صحيح مع عقل سليم ولم تخبر الرسل بمحارات العقول ولا تخبر بمحالات العقول.
لكن يبقى السؤال هل نحن في حاجة إلى العالمانية؟ لا شك أننا في عالمنا الإسلامي لسنا بحاجة إلى العالمانية بكل صورها لعدة أسباب، أهمها كما ذكر د. غالب عواجي في كتابه (مذاهب فكرية معاصرة):
1- كمال الدين الإسلامي: وقد شهد بذلك أصدق القائلين ورب العالمين، عالم الغيب والشهادة، فقد قال في كتابه الكريم: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلّا هالك".
وقد قال الفيلسوف "برناردشو": "إنني أعتقد أن رجلاً كمحمد لو تسلَّم زمام الحكم المطلق في العالم أجمع لتمَّ له النجاح في حكمه، ولقاده إلى الخير، ولحل مشاكله على وجه يكفل للعالم السلام والسعادة المنشودة".
وقد جرَّبه المسلمون حينما كانوا يطبِّقونه قولاً وفعلاً، فكانوا سادة العالم، والمنقذين للبشرية من الجهل والخرافات والظلم، والتوجه الحقّ لعبادة فاطر السماوات والأرض، ونبذ عبادة من عداه، ولهذا ولغيره فإنَّه لا يوجد أدنى مبرر لأيّ مسلم أن يعرض عنه، ويتخذ العالمانية اللادينية الجاهلية عقيدة ومنهجاً.
ومن كمال الإسلام أنه لم يدَع أي أمر يحتاج الناس إليه إلّا وبيَّنَه أتمَّ بيان وأوضح حكم، سواء أكان ذلك في الاعتقادات أو في المعاملات.. وجميع جوانب الحياة عقيدةً وسلوكاً في كلِّ ما يتعلق بحياة الناس الدينية والدنيوية.
2- ولأن وجودها في أوروبا وفي سائر المجتمعات كان له ما يبرره لفساد الحال فيها كما تقدَّم، بخلاف الأوطان الإسلامية التي أشرقت بتعاليم الإسلام.
3- ولأن عقيدة الإسلام واضحة تمام الوضوح في بيان أمر الألوهية والنبوات، وكل ما يتعلق بأمر البشر والتشريع، فالله تعالى واحد لا شريك له "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ"، والأنبياء بشر أرسلهم الله بأنباء الله تعالى ولا شركاء له، والبشر كلهم عبيد لله تعالى: "لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً"، والتشريع كله لله تعالى، الذي لا محاباة فيه ولا مجاملة على حساب أحد، كما هو حال القوانين الوضعية.
4- ليس في الإسلام حجر على أن شخص أن يتصل بربه مباشرة وبلا واسطة؛ إذ الكل عبيد له سبحانه، أقربهم إليه أتقاهم له، بخلاف ما كانت عليه الكنيسة؛ إذ لا وصول فيها إلى الله تعالى إلّا من خلال رجال الدين، مما أثار ثائرة المفكرين الغيورين على مستقبل حياتهم وحياة أبنائهم.
5- ليس في الإسلام رجال دين ورجال دنيا، أو رجال تشريع وقانون، أو رجال طبقات مُسخرة، وغير ذلك من أوضاع الجاهلية، فالناس في الإسلام كلهم في درجة واحدة في الأصل والتكليف، لا يتفاضلون إلّا بعلمهم وعملهم الصالح، فلا مزية بينهم إلّا في هذا الميدان.
6- الإسلام يحترم العلم ويحثّ على طلبه بكل الوسائل، كما يحترم العلماء ويثني عليهم: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"، "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ"، وميدان العلم في الإسلام فسيحٌ يشمل كل جوانب المعرفة، سواء ما يتعلق منها بالدين ومعرفته، أو بالأمور الدنيوية ومعرفتها.
حقيقة فإن هذا البناء الإسلامي المتكامل يجعلنا نجزم بأننا لسنا في حاجة للعالمانية، وبالرغم من وضوح الإجابة فإننا اليوم نقف أمام خطر عظيم وهو علمنة الدين ذاته واللعب بثوابته، الأمر الذي سنوضحه لاحقاً إن شاء الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.