فصل الدين عن الدولة.. ماذا يعني؟!

أما فيما يتعلق بهوية الدولة، فبالتأكيد طغت الهوية القومية والعرقية على الهوية المذهبية والدينية للدولة، وأصبحت الدولة إما تعبر عن هوية قومية كـ nation state أو عن خليط من العرقيات أو القوميات في بعض الأحيان يجمعها رؤية أداتية محايدة الهوية للدولة

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/31 الساعة 09:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/31 الساعة 09:30 بتوقيت غرينتش

المدخل الديني الثيولوجي والمدخل المصطلحي اللغوي كلاهما -كما أوضحت في التدوينتين السابقتين- لا يساعدان كثيراً على فهم ما هي العلمانية، فبرغم النشأة المسيحية والأوروبية للظاهرة وللمصطلح إلا أنه لا يمكن حصرها في هذا السياق فقط والزعم أنه لا يوجد ما يناظرها في السياقات المجتمعية والدينية الأخرى، كما أن التطور المستمر للظاهرة العلمانية، وتنوع مظاهرها في المجتمعات والسياقات المختلفة، والجدل السياسي والإيديولوجي العنيف الذي يدور حولها، بل وتعدد المصطلحات التي ترجمت إليها الكلمة الأصلية Secularism يجعل دلالات المصطلح غير واضحة إلى حد كبير.

لكن البعض يرى أنه على الرغم من ذلك، فإن العلمانية كظاهرة وكمصطلح ليست بهذا الغموض، فهي ببساطة تعني فصل الدين عن الدولة، وهو التعريف الأوسع انتشاراً والأكثر شيوعاً في تعريف العلمانية. وعلى الرغم من شيوع هذا التعريف ووضوحه، إلا أنه أيضاً غير كافٍ لفهم العلمانية، إذ ما الذي يعنيه فصل الدين عن الدولة على الحقيقة؟! وهو السؤال الذي قد يكون له إجابات متعددة، منها:

– على المستوى القيمي يعني أن المنظومة القيمية الدينية تنفصل عن المنظومة القيمية السياسية، وهو معنى قريب من فلسفة ميكيافيللي الذي رأى أن السياسة لها منظومة قيم تختلف عن منظومة قيم الدين، ولا يجب أن نقيم إحداهما على معيار الآخر.

– وعلى المستوى المؤسساتي يعني أن المؤسسة المجسدة للسلطة السياسية (وهي الدولة) تنفصل عن المؤسسة المجسدة للسلطة الدينية (سلطة تفسير وتطبيق النصوص الدينية)،

– وعلى مستوى الهوية يعني أن الدولة تصبح دولة مواطنيها أياً كان دينهم، وليست دولةً تجسد ديناً محدداً، أو تمارس تمييزاً لصالح أو ضد أتباع دين بعينه.

– وعلى مستوى الوظيفة، يعني أن الدولة لا تقوم بوظائف دينية، فلا يدخل في اختصاصاتها نشر دين معين لمجتمعات جديدة، أو حتى نشر التدين وترسيخه في داخل مجتمعاتها.

كل هذه الأوجه وغيرها قد يعنيها فصل الدين عن الدولة، لكن يبقى السؤال، أي من أوجه الفصل هذه قابلة للتحقق أو قد تحققت فعلاً في الدول العلمانية؟!
فقيمياً، الدولة ليست كياناً يتحرك في فراغ، بل داخل مجتمع، وهي تحتاج إطاراً قيمياً لتأكيد شرعيتها ولتسويغ قراراتها وقوانينها أمام هذا المجتمع، هذا الإطار القيمي بالتأكيد لم يعد دينياً صرفاً، لكنه بالتأكيد أيضاً لا يخلو من مسوغات قيمية دينية في أحيان أخرى. كما أن الدولة -وإن كانت كياناً اعتبارياً- فإنها تدار من قبل أشخاص حقيقيين، لهم رؤى وتوجهات، تشكّلت ولو جزئياً نتيجة عوامل دينية.

مؤسسياً، الفصل بين المؤسسة التي تجسد السلطة السياسية وتلك التي تجسد السلطة الدينية هو الأصل في الخبرة المسيحية، بل وفي الإسلامية كذلك كما أوضحت في تدوينة سابقة، فكلا المؤسستين كان لهما هيكلهما المستقل وتراتبية ونمط إدارة منفصل، وبالتالي تعريف العلمانية من هذا الوجه لم يأت بجديد، وإن كان المقصود بالفصل هنا العلاقة بين كلا المؤسستين، فواقعياً ما سعت إليه العلمانية ليس مجرد تحرير مؤسسة الدولة من المؤسسة الدينية وفصل العلاقة بينهما، بل هو إخضاع المؤسسة الدينية للمؤسسة السياسية، وبالتالي تصبح العلاقة موجودة، لكنها ليست علاقة ندية متبادلة أو هيمنة للديني على السياسي، بل هيمنة السياسي على الديني.

أما فيما يتعلق بهوية الدولة، فبالتأكيد طغت الهوية القومية والعرقية على الهوية المذهبية والدينية للدولة، وأصبحت الدولة إما تعبر عن هوية قومية كـ nation state أو عن خليط من العرقيات أو القوميات في بعض الأحيان يجمعها رؤية أداتية محايدة الهوية للدولة. لكن أيضاً في هذه الحالة، استمر الدين في الحضور وفي إضفاء الهوية، ليس بصورته التقليدية القديمة، ولكن بصورة الموروث الثقافي والحضاري والتاريخي، والذي يتجلى في بعض الرموز التي تستخدمها الدولة، وبعض أعيادها الاجتماعية، بل وحتى من خلال احتفائها ببعض أبطالها التاريخيين.

ربما الشق الوظيفي هو أحد الأوجه التي يتمثل فيها فصل الدين عن الدولة بشكل أوضح، فإسناد مهام دينية للدولة كمهمة نشر الدين خارجياً أو ترسيخ التدين محلياً لم تعد ممارسة مقبولة في الدولة العلمانية، كما أن اضطلاع المؤسسات الدينية فيها بمهام سياسية بشكل صريح لم تعد ممارسة مألوفة أيضاً إلا باستثناءات نادرة، وبطرق غير مباشرة.

لكن بالمجمل فإن العلمانية كمحاولة للحصول على مجال سياسي خالٍ من المنطق الديني، أو مؤسسة دولة متحررة من المرجعية والهوية الدينية تماماً لم تتحقق، بل انتهت إلى ما وصفه عالم الاجتماع يورجن هابرماس بالمجتمع المابعد علماني، وهو المجتمع الذي يتداخل فيه الموروث الديني التقليدي مع الموروث العقلاني التنويري، وتتفاعل فيه المؤسسات الدينية مع غيرها من المؤسسات المجتمعية السياسية والثقافية والتعليمية،

ومن ثم فالدين مازال يلعب أدواراً اجتماعية داخل هذه المجتمعات لكنه في المقابل أصبح فقط بديلاً من ضمن بدائل أخرى بدلاً من أن يسعى للهيمنة والاحتكار، كما أنه طور خطابه وعقلنته بما يجعلهما مقبولين وملائمين للطرح في المجال العام الحداثي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد