رأيته جالساً على دكةٍ خشبية موضوعة في ناحية من الرصيف، لم أصدق في البداية، فكيف له أن يعود وقد مضى على رحيله قرابة ثلاثين عاماً، لكنني لم أكترث كثيراً بحسابات المنطق وفكرة أن عودته أكثر من مستحيلة، فذهبت إليه مسرعة أتفقد ملامح وجهه التي لم أرَها يوماً سوى على أغلفة الكتب وبعض الصور على الإنترنت، فقد رحل قبل مجيئي إلى الدنيا من الأساس، جلست إلى جواره فلم ينتبه إلى وجودي من الأساس، ووجدته شارداً جداً متأملاً كل مَن يمر من البشر أمامه أو حتى من الحيوانات بنظرة فاحصة دقيقة، كأنما يحاول أن يجيب لنفسه على بعض الأسئلة التي تدور في ذهنه.
وكانت تلك عادته كما قرأت في كتبه من قبل، فله عقل لا يتوقف عن التفكير، فهكذا الأدباء، وهو لم يكن أديباً عادياً يمتهن الكتابة لأجل الكسب، بل كان أديباً؛ لأنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك حتى ولو أراد.. كان توفيق الحكيم.
لم أرُد تضييع تلك الفرصة التي حتماً لن تتكرر مجدداً، فوجهت إليه تحية الصباح؛ لعله يسمع صوتي ويفيق من شروده، التفت إليّ ببطء وهو متكئ على عصاه، ونظر إليَّ من فوق عدسات نظارته الطبية ورد إليّ التحية بود بالغ، وكأنما اشتاق للحديث إلى البشر. ولكي أزيل عني كل شك، سألته إن كان حقاً الأديب توفيق الحكيم. فتعجَّب ورد على السؤال بسؤال آخر: "وهل تعرفينني؟ هل قرأتِ كتاباً يحمل اسمي؟"، ثم أخذنا حديث طويل بعد أن أكدت له معرفتي به وبكتبه وبأنني تمنيت أن أقابله يوماً كي أحظى بحديث معه ولو كان قصيراً.
قال لي إنه بقي هنا جالساً قرابة ساعتين يتأمل وجوه الناس الذين كثيراً ما تغيروا منذ أن رحل عنهم، صار مستغرباً طريقة ردائهم ولهجتهم والألفاظ التي صاروا يستعملونها، والتي لا يجد لها وجوداً في المعاجم العربية ولا حتى الأجنبية.
قال لي إن الكثيرين من الشباب والفتيات جلسوا بجانبه ولم يتعرف عليه أحد، وجد في آذانهم أصواتاً عالية لا يستطيع حتى أن يسميها ألحاناً كتلك التي كان يسمعها لبيتهوفن، إنما دبدبات عالية تزعج حتى غير المستمع ولم يجد في أيديهم كتاباً أو نظرات إلى الطبيعة يتأملونها، لم يجد سوى شاشات مضيئة لا تكف عن الرنين، وأصابع صارت مرنة في الضغط على الحروف كأنما هي أصابع عازف البيانو.
أخبرته أن الزمن قد تغير كثيراً فقد غاب عنّا قرابة الثلاثين عاماً فكيف له أن يعود ويجد الوضع كما كان عليه؟ فسألني: وهل يا بنيتي للأدباء المعاصرين مكان وسط الناس؟ هل هم أصحاب تأثير؟ هل ما زال هناك قرّاء مولعون بالكتب والصفحات؟ شعرت في لحظة أن إجابتي لن تكون شافية أبداً، وأنه لن يتخيل مدى انحطاط الأدب في الزمن الذي نعيشه الآن فقررت أن آخذه في جولة إلى بائع كتب ليرى بنفسه ما صار يُطبع على الصفحات.
تمشينا معاً إلى أن وصلنا عند بائع كتب قديم جداً مفترشاً بضاعته على أحد الأرصفة، ورأى ضيفي أحد كتبه القديمة ذات الصفحات الصفراء محشوراً وسط مئات من الأغلفة الملونة والأسماء التي لم يكن يعلم عنها شيئاً، فقلت له: التقط ما شئت من الكتب، وأخبرني أنت هل ما زال هناك أدب؟ أم أن الأدب رحل مع رحيلكم، فأخذ يتصفح واحداً من الكتب المكتوبة بقلم أحد شباب التواصل الاجتماعي الذين صارت لهم ضجة عالية، لم يستغرق في القراءة كثيراً ونظر إلىّ مشدوهاً محملقاً في بائع الكتب الذي تجرأ على بيع تلك الصفحات، وفي اللحظة نفسها وجد مجموعة أصدقاء آتين نحو هذا البائع الذي لم يقترب منه أحد منذ يومين، أخذوا يمسكون بكتاب وراء الثاني، ولمعت عينا ضيفي حين وجد إحداهن تمسك بكتابه وتقلب في صفحاته، ثم وضعته جانباً هامسة لصديقاتها بنبرة ضاحكة "لست مهتمة بقراءة كلام معقد كهذا"، ثم أعادته إلى حيث كان، وقررت شراء الكتاب الذي تصفحه ضيفي منذ دقائق.
طلب منّي أن نرحل ففعلنا، أخبرني في رحلة العودة أنه كثيراً ما كان يشعر بالحزن نحو حال الأدب في مصر، وأن القرّاء المصريين ليسوا أولئك المتفاعلين والمحبين حقاً لكُتابهم، بل إنهم لا يعيرون للكتابة وقتاً أو مالاً، إنها ليست في أولوياتهم، وازداد حزنه بتجربة اليوم أكثر فأكثر.
أردت التخفيف عنه قليلاً كي لا يعود من حيث أتى لاعناً ذلك القدر الذي أرسله إلينا مرة أخرى، أخبرته أن الأدب لن يموت ولو انتشر أمثال هؤلاء، فكتبه هو وأمثاله من الأدباء الحقيقيين ما زالت تملأ مكتبات المولعين بالقراءة والأدب، وأن كلماته حية أبد الدهر ولو قرأها القليل، أخبرته أن هذا المجتمع ما زال به بعض العقول المفكرة والمستنيرة، وأن انحطاط الأدب يعود لمبررات اجتماعية كثيرة هي التي أدت بنا إلى تلك الحالة.
ربت على كتفي وابتسم ثم أبدى إعجابه بكلامي وبرحلته التي كنت مرشدتها، أخبرني أنه سعد بلقائي وبما قرأه لي من مقالات بينما نحن جالسان، أوصاني بعدم التخلي عن الكتابة ما حييت، والأهم عدم التخلي عن القراءة أبداً، أخبرني أن الدنيا لا تزال بخير ما دام فيها شباب مُفكر ومكافح رغم ما نمر به من ظروف.
علمت أن ساعة الوداع قد أتت، فنظرت إلى وجهه العجوز طويلاً؛ لأنني حتماً سأفتقده كثيراً، طلبت منه أن يعيد الزيارة ووعدني أن يفعل، وكانت آخر جملة قالها لي: "الأديب يا بنيتي شخص مسؤول، تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة دون أن يختار، فنحن نولد كي نصير أدباء كما تولد النحلة كي تنتج عسلاً، لا النحلة تختار ولا الأديب يختار، لكنها هِبة، فأحسنِ استخدامها وارتقِ بعقول هؤلاء، لا تهبطي بها إلى الوحل".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.