هي لحظات فارقة بين تقبيل جبين طفلها الصغير في منتصف الليل، وبين قدوم والدها؛ ليأخذها من أحضان أطفالها الأربعة وهم نيام، فارقت منزلها، لكن روحها فارقت جسدها من قبل؛ ليصبح بارداً منهكاً ومتعباً، حلقت الروح في زوايا المنزل؛ لتبقى مثل طير مذبوح يحوم حول أطفالها الصغار، وقلبها ينفطر وجعاً وحزناً وقهراً، يكاد يفر هارباً من بين ضلوعها ليلتصق بجدران منزلها، الذي عاشت به منذ سنوات هي وأطفالها؛ ليبقى قريباً من أرواح هم نبض الحياة لروحها.
لم يكن رحيلها بمحض إرادتها، ولكن رغبة لزوج ظالم، وقاسٍ، لا يعرف للإنسانية معنى، أهانها وجرحها وظلمها، فكسرها، وحرمها من أطفالها دون رحمة، وطالب والدها بأن يأتي ليعيدها إلى بيت أهلها، نتيجة خلاف لم يكن الأول بينهما، ولكنه كان الأخير، رغم محاولاتها المتكررة بأن ينتهي الأمر بسلام دون رحيلها، لكن هذا الخلاف كان بمثابة فرصة للزوج ليعلن انتهاء العلاقة الزوجية، فهي لم تعد الزوجة التي يرغبها، فحرمها من أطفالها بقوة، رغم أنها تحملت منه ما لم تحمله الجبال، فكانت مثل جبل الجليد الذي مهما بلغت قوته وعظمته وصموده، إلا أنه يذوب تحت أشعة الشمس، فكان صراعها مع الحياة كفيلاً بأن يودي بحياتها إلا أنها سرعان ما تحاول أن تضمد جراحها، وأن تقف على قدميها، وأن تستعيد قوتها، وأن تحارب وتجاهد وتعافر لأجل أطفالها.
لم ينظر زوجها لسنوات طويلة من عمرها وزهرة شبابها كيف أفنتها، وكيف ضحت بها، وكيف سهرت وكيف كانت وحيدة ليالي طوالاً تعاني آلام الفقدان والهجران والوحدة، لكنها رغم كل شيء، كانت في قرارة نفسها تشكر الله -عز وجل- لوجودها بجوار أطفالها، وتُعلم نفسها أن كل شيء يهون لأجلهم، حتى لو أشعلوا النيران فوق ظهرها، حتى لا يأتي يوم من الأيام ويتلفظ به أطفالها: لقد غادرتنا أمي.
والأم أضعف الوالدين وأكثرهما رحمة بالولد؛ لما جبلها الله تعالى عليه من العطف والرقة والرحمة والحنان، ولأن ولدها مضغة منها، خرج من بطنها، ورضع لبنها، ونام في حجرها، ووجد حنانها ودفئها، ولا يفهم الولد وطباعه حق الفهم إلا أمه، ولو كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب، ويكفي دليلاً على رحمة الأم بولدها أن الرضيع إذا جاع در لبن أمه، ولو كان بعيداً عنها.
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا الظلم، فإنه ظلمات يوم القيامة، وإذا كان من قريب فهو أشد جرماً، وأعظم إثماً، وأنكى جرحاً؛ لأنه ظلم وقطيعة.
والشريعة الربانية قد جاءت بما يوائم الفطرة، فأغلقت كل طريق يُحال فيه بين الولد وأمه؛ رحمة بهما، فالولد يحتاج إلى حضانة أمه، والأم يتمزق قلبها إن حيل بينها وبين ولدها، فإذا قدَّر الله تعالى فراقاً بين الزوجين كانت الأم أحق بحضانة الأطفال، وإنما كانت الحضانة للأم لأنها أقرب وأشفق، وهذا حق لها ما لم تتزوج؛ لأنها إذا تزوجت شُغلت بالزوج عن حضانته، وأَمْرُها بيد زوجها لا بيدها، وقد يؤذي زوجُها ولدَها ولا تستطيع منعه، والشرع الحكيم كما راعى مصلحة الجمع بين الأم ووليدها راعى كذلك مصلحة الطفل إذا تزوجت أمه وشُغلت عنه.
والأصل في ذلك حديث عَمْرُو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّهِ: "أَنَّ امْرَأَةً قالت: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هذا كان بَطْنِي له وِعَاءً، وَثَدْيِي له سِقَاءً، وَحِجْرِي له حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فقال لها رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ ما لم تَنْكِحِي" رواه أبو داود.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.